لو كان هذا الأمر يحدث للمرة الأولى أو العاشرة أو المئة، لاعتبرناه شأنا جادا، لكن رحم الله من قال إن التاريخ إن كرّر نفسه فإنه يبدو كمهزلة، مضحكا ومثيرا للسخرية. وفي عالمنا العربي ابتلانا الله بجماعة يعرفها الكل تعتقد أنها مفوّضة من السماء بتنفيذ فعلٍ وحيد لا ثاني له، تعيده وتزيد فيه كلما نسي لها الناس ما فعلته سابقا، مستمتعة كل مرّة بارتكاب الأخطاء التاريخية ذاتها.
دأبٌ مُبهر بات حالة كاريكاتيرية أكثر منه مسارا ذا وزن. لكن بقاء مثل هذه الظاهرة لا يثير التهكّم وحسب، بل يدعو إلى إعادة البحث في ما يمكن أن نسميه “علم الحماقة”، وقد سبقنا إليه كبار العلماء في الماضي العربي الذين اكتشفوا وجود مثل هذه الحالة واعتبروها جديرة بتسلية القارئ، فوضعوا فيها مؤلفات ومجلدات ضخمة. ليس عندنا فقط، إنما في العالم الغربي أيضا، قرأتُ لجورج برنارد شو قوله إن الإنسانية كانت “ستكون سعيدة منذ زمن، لو أن الرجال استخدموا عبقريتهم في عدم ارتكاب الحماقات، بدل أن يشتغلوا على إصلاح حماقاتٍ ارتكبوها”.
جماعة ترى الناس يمشون في طريق ما، فتختار أن تمشي عكس ذلك الطريق، وترى المنطق يقول شيئا فتقول غيره، لا لشيء إلا لاقتناعها بأن هذا نوعٌ من التشاطر والذكاء السياسي الخارق.
يحارب الخلقُ الفساد، فنسمع عن تحالف سرّي يضم هذه الجماعة مع فاسدين كبار. يضيق البشر بأوضاعهم الحياتية ذرعا فتجد الجماعة تعقد الصفقات مع من يضيّق على الناس معيشتهم. يقف العالم ضدّ التطرّف فنرى أن هذه الجماعة تغذّي التطرّف بذريعة أنه عمل لا يمكن لها أن تقوم به بنفسها، فليفعله الرعاع والعوام بالنيابة.
تقتضي مواقف معينة التعامل بحكمة وحنكة، فتفاجئك الجماعة بطيش لا يبدر عن مراهقين. يوقن القاصي والداني والعاقل والجاهل والأعمى والبصير أن إيران هي سبب البلاء في الشرق وتحتل أربع عواصم عربية وتنشر الخراب والدمار من “بيروت إلى صنعاء، إلى الشام وبغدانِ”، فتسارع هذه الجماعة إلى التحالف مع الشيطان وتقبيل يد خامنئي والتمسّح بأرجل الحرس الثوري وتمجيد من تسميه بـ”الشهيد” قاسم سليماني ورفع صوره في الشوارع، ويستهدف الحوثي دولا عربية أخرى بإرهابه، فتلتقي الجماعة بالحوثي وتنسّق معه. فأي دهاء سياسي هذا الذي يدلّها على هكذا أفكار عبقرية!
حالة لا تقبل الإصلاح، لا تراه ضروريا ولا تشعر بالحاجة إليه، ولذلك ينبغي تركها للزمن حتى تتعفّن وتذوي تماما، فقيمُها الرّخوة لا حلّ ولا طبّ لها، وصدق الشاعر إذ قال “لا يبلغُ الأعداءُ مِن جاهلٍ، ما يَبلغَ الجاهلُ مِن نفسِهِ”. فكم توفّر الجماعة من العناء على غيرها؟
“صحيفة العرب”