أثار شعار «أنا أصدّق الضحية» كثيراً من الجدل، بل الصراع الثقافي والسياسي، منذ تعميمه بشكل كبير في العقد الماضي. وهو أمر متوقّع نظراً لتبعاته القانونية والاجتماعية، وتأثيره العام في سلوك البشر في الحيزين العام والخاص. بالنسبة لأنصار الشعار فهو يساهم بقلب علاقات القوة الاجتماعية، ليعطي من غُيّبت أصواتهم الحق بالتعبير عن الأذى والانتهاكات، التي لطالما تعرضوا لها في مجتمعات همشتهم وأقصتهم بشكل بنيوي؛ وليكسبهم تعاطفاً وتضامناً جمعياً، لا يتسامح البتة مع أي شبهة انتهاك، تتيحها هرميات الامتياز القائمة.
نقّاد الشعار تحدثوا عن آثاره، التي اعتبروها كارثية، في المنظومة القانونية، وحقوق الأفراد، الذين قد يتعرضون للتشهير والعقوبة، دون أن يتم تطبيق الحد الأدنى من قواعد التحقق من التهم، التي رماهم بها «الضحايا».
وإذا كانت لتصديق الضحايا آثار مهمة في فهمنا للقانون والعدالة وعلاقات القوة الاجتماعية، لا يمكن التسرّع بتقييمها إيجاباً أو سلباً، فهو يطرح إشكاليات أخرى على الصعيد الفني والجمالي بالتحديد. فبعد انتشار كثير من المنتجات الثقافية، في المسرح والفن التشكيلي والآداب المكتوبة، مخصصة لنقل إفادات ضحايا نمط ما من المعاناة، يمكن التساؤل عن معنى «الإفادة» في سياق نظام الفن عموماً.
يتعامل الفن بالتأكيد مع السياسة والأخلاق والقانون، وغيرها من المنظومات الاجتماعية، وقد يسعى كثير من الفنانين إلى إيصال ما يعتبرونه «حقائق» عبر أعمالهم، ولكن تبقى اهتماماته الأساسية متعلقة بالأسلوب والمنظور والشكل، وإلا فما الذي سيميّز الأعمال الفنية عن غيرها من الوسائط، العلمية والقانونية والفلسفية، المختصة ببحث سؤال الحقيقة؟
يهتم العمل الفني إذن بالأسئلة الجمالية، حتى لو كان يسعى إلى تحطيم وتفكيك المفهوم السائد للجمال في عصره، وبالتالي فإن متلقي الفن غير معنيين أساساً بمدى «حقيقية» الشكل الذي يقدم إليهم، أو تطابقه مع تجارب واقعية، بقدر ما يسعون إلى الوصول إلى رؤية جديدة، أكثر شمولاً ورحابة، عبر الأسلوب والمنظور اللذين يوصلان الوقائع والأفكار والخبرات إليهم. ولهذا فإن إفادات الضحايا، بحد ذاتها، ليست الأمر المهم في الفن، بل كيف تم توظيفها ضمن شكل فني ما. تبرز المشكلة عندما يكتفي الفنانون بإيصال التجربة والإفادة كما هي، دون أن يطرحوا على أنفسهم الأسئلة الفنية الضرورية لعملهم، وكأن اندراجهم ضمن أخلاقيات عصرهم، المحتفية بالضحية، يكفي لجعلهم فنانين. كيف يمكننا إذن أن نميّز ما هو فني، ضمن سيل الإفادات والتجارب الذاتية التي يمتلئ بها عالمنا؟
يفترض أي سياق تواصلي بين طرفين وجود معيار أو مرجعية ما؛ طرفاً ثالثاً يعطي المعنى للعلاقة الثنائية، بما تحويه من عبارات وممارسات ووقائع؛ ويُحكّم في الخلافات وسوء الفهم المحتمل.
المسافة والأثر
يفترض أي سياق تواصلي بين طرفين وجود معيار أو مرجعية ما؛ طرفاً ثالثاً يعطي المعنى للعلاقة الثنائية، بما تحويه من عبارات وممارسات ووقائع؛ ويُحكّم في الخلافات وسوء الفهم المحتمل.. الإجراءات القضائية في نظام القانون؛ المنهج المكرّس في نظام العلم؛ مفهوم الخير المتفق عليه اجتماعياً في نظام الأخلاق، تلعب في العصر الحديث هذا الدور، ولكن المسألة تصبح أكثر إشكالية في نظام الفن، من يجرؤ اليوم على تحديد ماهية الفني، ضمن العلاقة بين الفنان والمتلقي، خاصة بعد كل الثورات التي فجرتها الحداثة الأدبية والفنية؟ إحدى المحاولات للإجابة على هذا السؤال مقالة لويس ألتوسير عن معنى الفن، فقد اتُهم الفيلسوف الفرنسي الشهير بنظريته عن الأيديولوجيا، بأنه يعتبر الفن مجرد خطاب أيديولوجي، يعبّر عن مصالح وسياسات القوى السائدة في المجتمع، التي تسعى إلى «إعادة إنتاج علاقات الإنتاج» حسب تعبيره، من خلال تحديد ذات كل فرد، وموقعه ضمن الهرمية الاجتماعية. ألتوسير ردّ، في رسالة/مقالة وجهها لأندريه داسبر الناقد الأدبي الفرنسي، بالتأكيد أن الفن ليس مجرد خطاب أيديولوجي، ويجب أن لا يكون، وإلا لا يمكن اعتباره فناً. يمتلك الفنانون بالتأكيد أيديولوجياتهم، ومنظوراتهم السياسية والأخلاقية، التي يمكن اعتبارها المادة الخام لأعمالهم، ولكن ما يحدد «حرفتهم»، بوصفهم فنانين، المسافة الداخلية التي يتخذونها ضمن أيديولوجيتهم الخاصة، التي تتيح لهم منحنا إدراكاً أو تبصّراً أو شعوراً خاصاً حول ما نملكه مسبقاً من أفكار وانحيازات. لا ينفصل الفنانون عن الأيديولوجيا، بل على العكس، عملهم الخاص على أيديولوجيتهم، بالأدوات الفنية التي يبتكرونها، هو بالتحديد «الأثر الفني». بهذا المعنى فإن الفنان يقدّم لنا شكلاً ومنظوراً ما، يخرجنا من مباشرة وفجاجة الطرح الأيديولوجي، ويهبنا نوعاً من الرؤية، متعددة المستويات والأبعاد.
مفهوما «المسافة» و»الأثر»، اللذان طرحهما ألتوسير، مفيدان للغاية في تحديد ماهية «الجمالي»، فهما يتيحان تعريف الفن بوصفه نمطاً معيناً من إنتاج العلامات والرموز الثقافية، لا يقوم على إيصال «الحقيقي» أو «الصحيح» أو «المهيمن»، بل على إنتاج «التبصّر» بوصفه نتيجة بلا مقدمات. المثال الذي طرحه كان رواية «يوم في حياة إيفان دينيسوفيتش» للأديب الروسي ألكسندر سولجنيتسين، التي تتحدث عن حياة المعتقلين في الغولاغ الستاليني. لم تمنحنا الرواية معرفة عقلانية منضبطة بأسباب الديكتاتورية وعبادة الفرد ونتائجها، ولم تقتصر على استنساخ معاناة المعتقلين في الغولاغ، وتقديمها كما حدثت، بل أبدعت تكويناً غنياً وشاملاً، يعطينا تبصّراً بمختلف جوانب ومستويات، بل حتى تناقضات التجربة التي عاشها المعتقلون. بهذا المعنى فإن العمل الفني لا يمكن أن يكون مجرد إفادة، لأن ضحية الانتهاك أو المعاناة، تريد أساساً التعبير عن الألم والضرر الحالي الذي تعاني منه، لكي تنال العدالة أو الحماية أو التعاطف، وهي في موقف أبعد ما يكون عن اتخاذ مسافة عن معاناتها الذاتية، كي تنتج فضاءً أكثر رحابة للرؤية.
تبدو الأعمال، التي تصف نفسها بالفنية، المقتصرة على تقديم إفادات الضحايا وتجاربهم بشكل مباشر، أقرب لمفهوم آخر لألتوسير، وهو «المناداة» interpellation، وهو بحسبه الآلية الأساسية للأيديولوجيا: تقوم السلطة، عبر أجهزتها الأيديولوجية، بصياغة الذوات الفردية، عبر مخاطبتها بأسلوب معين، يمنحها هوية وموقعاً ضمن النظام الاجتماعي. و»فن» صناعة الضحية لا يفعل أكثر من مناداة الأفراد، واستدعائهم وتقديمهم بوصفهم ضحايا، هوياتهم ومواقعهم محددة ضمن هرمية واضحة وصلبة، تحرص السلطات القائمة على استقرارها.
يمكننا اليوم أن نتلقى الأعمال الفنية المقبلة من ذلك الزمن، والتي تصنّف بوصفها مستقبلية أو دادائية أو سيريالية أو تعبيرية، دون أن نكون مقتنعين بالأيديولوجيات الفاشية والشيوعية والليبرالية، التي ألهمتها بشكل أو بآخر.
خطر التبدّد
بهذا المعنى فإن المعايير، التي تعطي المعنى لأي ممارسة ضمن نظام الفن، هي المسافة والأثر والحرفة الجمالية، وباختلال هذه المعايير فإن النظام بأكمله يصبح عرضة للتبدد. يشرح عالم الاجتماع الألماني نيكلاس لومان، أن الوظيفة الأساسية لأي نظام اجتماعي هي الحفاظ على انفصاله التشغيلي عن بيئته، المكوّنة من أنظمة أخرى، عن طريق تحويل كل المؤثرات التي تأتيه من البيئة إلى عبارات وإجراءات وتصورات تتفق مع آليات عمله، وعندما يفشل النظام بذلك يتبدد بكل بساطة، وينحلّ في بيئته، تماماً كما تتبدد بقعة من الحبر في كأس ماء.
الإفادات الشخصية مهمة في نظام القانون، إذ يؤرشف المحققون والقضاة، والناشطون الحقوقيون، ما يقوله الضحايا، تمهيداً لتحقيق العدالة، وتنفيذ ما يقتضيه مفهوم «الحق» في عصر ما، ولكنها تصبح عبئاً على نظام الفن، إذا لم يستطع ترجمتها إلى أسلوبه الخاص في الترميز، وطرقه في القول والتعبير. يبدو «الفن المعاصر» قريباً من التبدّد، إذ لم يعد من الممكن تمييزه بسهولة عن الطرح الأيديولوجي للشركات والمؤسسات الثقافية والمنظمات غير الحكومية التي تموّله. الإفادات التي تحاصر المتلقين، عن التمييز والصدمة والإساءة، تحوّل الفن إلى مجرد تكرار حرفي لا متناهٍ، شديد البلادة والكسل أحياناً، لمقولات معروفة سلفاً، ومتفق عليها في الأيديولوجيا السائدة، دون أن يتخذ منها أي مسافة، ذات «أثر» ما.
عودة الفن
إلا أن الفن، بمعناه الأوسع، يبقى ظاهرة ملازمة للمجتمعات البشرية منذ نشوئها. وإذا كان «الفن»، الممول من أجهزة أيديولوجية معيّنة، قد ضيّع المعايير والإجراءات الخاصة به، ما جعله ينحلّ بالأيديولوجيا، فإن فنوناً أخرى لا بد أن تبرز من هوامش اجتماعية غير متوقعة. ربما يكون عصرنا بحاجة لثورة جمالية، مثل التي شهدها العالم بعد الحرب العالمية الأولى، عندما تمرّد الفنانون على المفاهيم السائدة في زمنهم، التي لم تؤد، باعتقادهم، إلا إلى الدمار والمعاناة؛ وأنتجوا رؤى مغايرة، تأثّرت بشدة بالأيديولوجيات السائدة آنذاك، ولكنها لم تكن مجرد تكرار لها، بل احتفظت بـ»طليعيتها» دائماً.
يمكننا اليوم أن نتلقى الأعمال الفنية المقبلة من ذلك الزمن، والتي تصنّف بوصفها مستقبلية أو دادائية أو سيريالية أو تعبيرية، دون أن نكون مقتنعين بالأيديولوجيات الفاشية والشيوعية والليبرالية، التي ألهمتها بشكل أو بآخر. تماماً كما يمكن للمرء أن يستمتع بالفنون التقليدية والطقوسية والدينية، حتى لو لم يكن مؤمناً بالعقائد والقيم والأعراف المرتبطة بها.
ربما كان البحث عن مثل هذا الحضور المستقل عن الأيديولوجيا السائدة، وليس الاكتفاء بمعارضتها، هو ما يجب أن يحرّك تفكير المبدعين، الذين ملّوا من التلقين الذي يفرضه ممولو الفن.
كاتب سوري
“القدس العربي”