ظهر في القرن الرابع عشر في اليابان فنّ من نوع غريب أُطلق عليه اسم فنّ الجثث أو (كوسوزو) وهو يختصّ برسم جسد الإنسان مفصّلا عند تحلّله بعد الموت. ويعدّ عمل الرسّام كوباياشي ايتاكو «جسد محظية في مراحل التفسخ التسع» (1870) أحد أكثر أعمال الكوسوزو شهرة.
في اللوحة الأولى نرى امرأة مسترخية تحمل مروحة في يدها. وفي الثانية تبدو المحظية ميّتة وترقد عارية، مغطّاة بملاءة سرير تكاد تسترها. الرسمة التالية يتغيّر فيها لون المرأة وينتفخ جسدها، وشيئا فشيئا يتمزّق الجلد وتتخشّب العضلات. اللّوحة السابعة تُرينا الجثّة وقد تيبّست تماما وتنبشها الحيوانات والطيور، وتظهر العظام في الوجنة والأنف والفخذ الأيسر.
إن الفن ليس رفاهية كاذبة، وإذا كان البعض يدعو اهتمام الفنان بقضايا تخصّ المواطن والوطن التزاما، فإن الكاتب ألبير كامو لا تعجبه هذه الكلمة. يقول: «لا يتعلق الأمر بالتزام الفنان الطوعي، بل بالأحرى خدمة عسكرية إجبارية». في أحد نهارات هذا الصيف كنت على موعد مع صديقي الشاعر إبراهيم البهرزي في شارع السعدون – مركز العاصمة بغداد الثقافي والترفيهي والتجاري – وكان البهرزي قد فارق المكان زمنا يبلغ حوالي ثلاثة عقود. لم أعثر عليه، ولم يستدلّ هو عليّ إلاّ بعد أن تاه لأنه وجد الشارع صار بفعل الإهمال الحكومي طيلة خمسة عقود متاهةً من الأبنية المهدّمة، وكأنّ زلزالا متمدّدا في الزمان ضرب المدينة. إن ما تفعله القذيفة أو الهزّة الأرضيّة هو تجميع وتكثيف لما تؤدّيه السنين العديدة في لحظات قليلة. ثم عثرتُ على صديقي أخيرا، وكان يائسا ومحبطا وحزينا، وتذكّرت عندها تصوير كوباياشي للمرأة المحظية، وتساءلتُ: أيّ رقم نمنحه للّوحة التي شاهدتها الآن لشارع السعدون بعيني الشاعر البهرزي؟
إن كتابة تاريخ العراق الحديث تحتاج منا أن نستعين بأحد رسامي (الكوسوزو) وتستغرق كل لوحة عقدا من الزمان، منذ تأسيس الدولة العراقية في عشرينيات القرن الماضي وإلى الوقت الحاضر. وهذه سنوات التسعينيات، حيث اجتمع العالم كلُّه داخل أروقة الأمم المتحدة، وتحت إلزام مجهول السبب أصدر قرار الحصار الاقتصادي على البلاد، ومعناه قطع الغذاء والدواء عن العراقيين البسطاء والفقراء والضعفاء.
يُقال إن الروائيين هم رسّامو هذا الزمان، ويصوّر لنا فؤاد التكرلي في روايته الأخيرة «اللاّ سؤال واللاّ جواب» بعضا من ملامح تلك السنين، وعلى القارئ تقع مهمّة تثبيت رقم اللّوحة التي يراها عندما يختتم الكتاب، ذلك أن أعمال التكرلي تشبه لوحات فن الكوسوزو، تتحلّل فيها مدينته بغداد شيئا فشيئا، ويعمل فيها صمل الموت، وتتغيّر في أثناء ذلك طبائع الناس وأخلاقهم، ويختلف تبعا لهذا كلّ شيء في الحياة.
بطل رواية «اللا سؤال واللا جواب» موظف حكومي، لكن هبوط سعر الدينار العراقي في السوق، بسبب احتلال الكويت اضطره إلى أن يعمل سائق تاكسي بعد أوقات الدوام، ويحمل معه في ذلك المساء شيخا متعبا من السنين، وكان يتنهد وهو جالس قربه بين الفينة والأخرى ويتمتم «لا حول ولا قوة إلا بالله». كان الاثنان صامتين، وأحسّ السائق بالعاطفة تجاه الشيخ. لم يعجبه أن يتدخل في شؤونه، لكنه أراد أن يصبّره فقال له:
– الله كريم، عمّي، هذا امتحان للعراقيين.
– امتحان؟! لِمن؟ من يمتحنهم يا أخي؟
– من الله، سبحانه وتعإلى.
– ولِمَ العراقيون فقط، دون خلق الله جميعا، هم الذين يُمتحنون بمثل هذا الامتحان العسير، يا أخي؟
– إرادة الله.
– كلا، لا تقل مثل هذا الكلام يا أخي. لا تضع على كاهل الربّ ما فعله شخص واحد مفرد.
الشّخص المقصود هنا هو الرئيس العراقي السابق، فقد أقدم على احتلال الكويت في قفزة مجنونة في الظلام، وسبّب لبلده والمنطقة كلّها الخراب، وكانت النتيجة أن العالم «داسنا بحذائه» بتعبير شيخ التكرلي «عن قصد وبإصرار ودون رأفة أو رحمة. العالم كله يا أخي. انظر إلى هذا الشيء. العالم كلّه يجتمع ليقتل شعبا بأكمله، يقتله جوعا وحرمانا». هي لوحة أخرى من جثّة مدينة بغداد التي كانت تتفسّخ تدريجيا، ويصوّرها لنا التكرلي في قصصه ورواياته بالتفصيل الكامل والوافي.
انتهت حقبة التسعينيات، ثم جاء الاحتلال الأمريكي، وبدأت عندها مباشرة الحرب الأهلية (2003 – 2008) ونعود إلى الشيخ، عرّاف التكرلي، وهو يحدّث سائق التاكسي، جليسه في تلك الليلة: «هذا ما يجب أن تتأمل فيه يا أخي. هل تعلم؟ العالم لا يمتحن العراقيين. العالم يريد أن يقتلهم، وقد أعطاه ذلك المخلوق أسبابا لذلك. هكذا يجب أن تفكر. هل تعلم؟ والآن، أزيدك علما، بأن هذا العالم يريدك أن تموت بصمت. دون كلام. دون احتجاج. فماذا تعمل، يا أخي». لقد أبان لنا شيخ التكرلي كلّ شيء في تاريخنا الحديث في مشهد لا يتجاوز صفحة ونصف الصفحة، وبحضور لا يستغرق أكثر من نصف ساعة من الزمن الروائي الذي يبلغ عددا وافرا من السنين.
إذا أردتَ أن تتشرّب بما جرى في العراق فاقرأ أدب التكرلي. وفي هذه الرواية، وفي هذا المشهد بالذات، يشرح لنا الكاتب، وبطريقة مباشرة ليست معهودة في فنه القصصي، دورَ الرئيس الراحل في تدمير العراق. لكن صدام مات وصارت عظامه رمادا تذروه الرياح الأربع، فما هو الجديد على الساحة؟ الحقيقة أن الزلزال عاد ليضرب المكان، ويتمدّد في الزمان هذه المرة.
إذا أردتَ أن تتشرّب بما جرى في العراق فاقرأ أدب التكرلي. وفي هذه الرواية، وفي هذا المشهد بالذات، يشرح لنا الكاتب، وبطريقة مباشرة ليست معهودة في فنه القصصي، دورَ الرئيس الراحل في تدمير العراق.
ثمة ظاهرة حتمية تجري في البلدان التي تشبه العراق، وهي أن هناك دوما من يجلس في القمة من هرم السلطة، وبدم فاتر يقوم بتوزيع الضيم ومذلّة العيش على الجميع دون استثناء، إلا من يرتكب معه الإثم، بتعبير الشاعر نامق سلطان، في قصيدة تشرح للمواطن الطريقة التي تبقيه حيّا:
«أمامكَ أمرٌ واحدٌ تقوم به كي تنجو
أن تبقى جديداً دائماً
مثل إثمٍ يُرتكَبُ كلّ يوم».
بدل القمة الواحدة في السلّم، باتت لدينا بفضل ما يُدعى بالديمقراطية أحزاب عديدة، وكل حزب له جيش يحرسه ويدافع عنه، وتتصارع هذه الأحزاب، وتنجرّ معها جيوشها إلى القتال، والنتيجة أننا صرنا نمتلك بدل القمة الواحدة أعاليَ عديدةً ومآسيَ كثيرةً ومثيرة، وكلّ شيء يجري بالطبع بدم فاتر. تعريفٌ آخر: الإنسان حيوان بدم فاتر.
للشاعر سركون بولص قصيدة عنوانها «بورتريه للشّخص العراقي في آخر الزمن» منشورة في ديوانه الأخير الصادر عام 2008: «أراه هنا، أو هناك/ عينه الزائغة في نهر النكبات/ منخراهُ المتجذّران في تربة المجازر». يرسم سركون بولص بورتريها لي، أنا العراقي: «وفي جبينه المغضّن، مثل شاشة/ يمكنك أن ترى طوابيرَ الغزاة/ تمرّ كما في شريط بالأسود والأبيض». هم الغزاة إذن دوما يأتون وادي الرافدين من الجهات المحيطة، مثلما تنبع أنهاره العظيمة من الخارج. ويمضي الشاعر يعدّ الحروب التي جرت هنا: «عدوٌّ يدمّرُ أور. خراب نيبور. يدمّرُ نينوى/ خرابُ بابل. يدمّر بغداد/ خرابُ أوروك». هذا في التاريخ القديم، وفي الحاضر جرت في البلاد ثلاث حروب عظيمة (مع إيران، وحرب تحرير الكويت، والاحتلال الأمريكي) ثم حلّت الحرب الأهلية (2003 – 2008) التي أحرقتنا نحن العراقيين أكثر مما نعرف. يختتم سركون بولص قصيدته بكلام صريح:
«وبأيّ وجهٍ ستأتينا، هذه المرّة، أيّها العدوّ؟»
سؤال: ما هو الغرض من بثّ ما يُدعى بالتسريبات التي قام بها الصحافي العراقي المقيم في الولايات المتحدة الأمريكية بشأن رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي؟ أولا: لست هنا في سبيل الدفاع عن أحد، فالساسة العراقيون أخطأوا في الصغيرة والكبيرة، واعترف المالكي بأنه لم يسلك الطريق السليمة في الحكم، في مقابلة بُثّت بالصوت والصورة. كما أنك لا تستطيع أن تتجسّس على أحد في دارته، وتذيع ما يقوله على الناس، وتدّعي أنك تخدم المصلحة العامة. لا. لا. هذا لايجوز. فنحن قد نشتم في ساعة غير رحمانية حتى الملائكة، قُدّسَ سرّها، في حديث يجري في خلوتنا مع الأصدقاء أثناء تناول الحلويات بعد العشاء. قصة التسريبات هي عمل مخابراتيّ يذكّرنا بأعمال حزب البعث عندما كانت الزوجة تتجسس على بعلها، والصديق على صديقه، والأخ على أخيه. هل تريد أن تعود تلك الأيام؟ لا يا أخي وألف لا، فهذا عمل ليس مما ينفع الناس والوطن، وهو ظلم من نوع آخر. يقول ابن خلدون: «الظّلم مُؤذن بخراب العِمران». هل يحتاج أمر إبعاد رجل من ساحة الحكم أن تجري الدماء في الشوارع والحارات، ليقدّم عندها الصحافي علي فاضل نموذجا للوحة الأخيرة لجثة البلد؟
يكرّر سركون بولص المقطع الشعري نفسه، خاتما به قصيدته، وأعيده أنا في النهاية معه:
بأيّ وجهٍ،ستأتينا أيّها العدوّ، هذه المرّة؟»
كاتب عراقي
“القدس العربي”