لا يزال ملف المرأة المصرية مفتوحاً في السينما، حيث التوصيات الكثيرة بحماية حقوقها هي حُجة التمويل الأجنبي في إنتاج المزيد من الأفلام، التي تطرح قضايا جديدة تخص حرية المرأة وواقعها الاجتماعي والسياسي ولا تتورع السينما المُستقلة المُمولة من اختلاق المُشكلات والأزمات لتظل القضية الشائكة على صفيح ساخن، وفي كل مرة توجد المُبررات أو يتم إيجادها لإقناع الجمهور بالرسائل المُتضمنة في موضوع الفيلم، مهما كانت حساسيته.
آخر نزعات التجديد والحداثة في ملف السينما القصيرة والتسجيلية، هي تلك الرؤى التي تطرحها المهرجانات المحلية والدولية حول صور التمرد ومحاولة المرأة انتزاع حريتها من قبضة الرجل الحديدية، قبل تماديه في مُمارسة المزيد من القهر والقسوة تجاهها، وفي هذه الأفلام يتم استدعاء الأفكار التقليدية عن ضرورة احتشام المرأة وبقائها في البيت للعناية بالزوج وتربية الأبناء، وهي ذاتها الأفكار التي تستهجنها الطليعة السينمائية المُثقفة، وتعتبرها من دلائل تحكم الرجل الشرقي وسيادة قانونه الخاص في ما يتصل بمفهومة الاجتماعي ورأيه في وظيفة المرأة وكينونتها!
وبالطبع تتكئ الجهات الإنتاجية الخارجية على هذه المعاني في دفاعها عن منهجها الغربي للحرية ومقاومتها لقمع المرأة، حسب تصورها، وعليه تدور عجلة إنتاج الأفلام المناوئة لسُلطة الرجل المُطلقة، في محاولة مُستميتة لتقويضها بشتى الذرائع، ولا مانع في هذا السياق من التطرق لما هو أبعد من ذلك، ففكرة المُحافظة في حد ذاتها تؤرق الغرب، وبالتالي تشجع المُختصين بالملف السينمائي في المنطقة العربية على تبني نظرية تحرر المرأة من القيود المزعومة كافة، التي تراها عائقاً أمام التغييرات المُجتمعية المأمولة والتي تسعى جاهدة لإحداث طفرات مهمة لتحقيقها.
فلم تكتف المؤسسات الإنتاجية الأوروبية والأمريكية بطرح الأفكار الخاصة بالمُتغير الثقافي والشكل الاجتماعي الظاهر، والمُتمثل في عدة أوجه كحق العمل وحرية الزواج والطلاق، وانفتاح المرأة على أحدث صيحات الموضة وبيوت الأزياء، وحرية التنقل والتمتع بالرحلات والتنزه، وغيرها من صور التطور المقبولة، بل إن الأمر تجاوز هذه المبادئ إلى التحريض على العصيان والدعوة إلى المساواة في الحقوق كافة بما فيها الميراث وعدم رفض المثلية لدى الرجال والنساء، وغيرها من مُعطيات التخريب التي تتزايد كلما سمحت المُجتمعات الشرقية بقبول بعض الشروط المُملاة عليها قسراً!
ولعل مجموعة الأفلام التي تم عرضها منذ فترة قريبة، وأحدثت صدمة لدى المُتلقي القابض على جمر الفضيلة لم تزد عن كونها مُقدمات لجس النبض في هذا الاتجاه، ليتم تعميم ثقافة حرية العرض والنقد، مهما بلغت خطورة المُحتوى المعروض فنياً وسينمائياً، ووفق الخُطة المنهجية المدروسة تم التحول عن طرح الأفلام السياسية بشكلها المُباشر، التي تدعو للتسامح مع الآخر واحترام أفكاره ومُعتقداته إلى الغوص في العمق والتشكيك في الثوابت الاجتماعية والقيمية والأخلاقية لتهيئة النشء الجديد لقبول ثقافة مُغايرة مفادها الاندماج في المنظومة العالمية بشروطها الاستيعابية الكاملة.
ورغم أن ما يتم الحديث عنه حالياً وتعمل المؤسسات السينمائية والمهرجانات الدولية على ترويجه، تم طرحة ومناقشته من قبل في أفلام مصرية راعت حدود الفصل بين الحرية والفوضى، إلا أن الإلحاح على إسقاط ورقة التوت الأخيرة، وتخلي السينما المصرية عن حيائها تماماً، بات أمراً مُزعجاً، لاسيما أن الغاية ليست هي التميز الإبداعي في حد ذاته، وإنما الشذوذ عن القاعدة الأخلاقية هو الهدف الأساسي من الحرب الدائرة على خلفية القبول التام بشروط التمويل الخارجي من عدمه، لإنتاج أفلام تستهدف هدم منظومة القيم وإقامتها من جديد على أسس مُختلفة لا تُراعى فيها المحظورات الرقابية الثلاثة، الدين والجنس والسياسة!
وللتنويه عن دور السينما المصرية في الاهتمام بالمرأة وواقعها وحريتها، يستوجب المقام الإشارة إلى بعض الأفلام المُهمة بتفاصيلها الإنسانية التي طُرحت دون ابتذال، أو خرق للثوابت المُتعارف عليها، كفيلم «دنيا البنات» للمخرج سعد عرفة، بطولة ماجدة ورشدي أباظة، و«أنا حرة» المأخوذ عن قصة الكاتب إحسان عبد القدوس، و«مع الذكريات» بطولة مريم فخر الدين وأحمد مظهر ونادية لطفي و«بنت 17» لزبيدة ثروت وحسين رياض ويحيى شاهين و«شيء من الخوف» المأخوذ عن رواية الكاتب ثروت أباظة وبطولة محمود مرسي وشادية. وكذلك فيلم «نحن لا نزرع الشوك» وفيلم «الباب المفتوح» و«أريد حلاً» و«زقاق المدق» و«النداهة» عن قصة يوسف إدريس و«جميلة بوحيرد» للمخرج يوسف شاهين و«النظارة السوداء» و«الزوجة الثانية» و«موعد على العشاء» و«بئر الحرمان» لسعاد حسني وغيرها الكثير من الرؤى الأدبية والفكرية، التي حذت حذو القيم والأخلاق والتقاليد، وفي الوقت نفسه عالجت مُشكلات مهمة في منتهى الجرأة بمقاييس زمانها وعصرها، حتى الجرائم ضد المرأة لم تتجاهلها السينما المصرية وقدمتها في إطارها الطبيعي بلا مُبالغة أو تهوين، فمن الأمثلة القوية على نضج التجارب الخاصة بهذا الشأن فيلم «المرأة المجهولة» لشادية وكمال الشناوي و«المُتهمة» و«الضائعة» و«المرأة والساطور» حيث لم يكن هناك تقصير في التعبير عن هموم المرأة وأزماتها النفسية والاجتماعية، وهو الفارق النوعي والتطبيقي بين سينما الأمس الواقعية وسينما اليوم المُدعية بالحق الباطل.
كاتب مصري
“القدس العربي”