دلالات المصطلح
عمود الشعر، لا الشعر العمودي أو القصيدة العمودية. لا نجد أيا من المصطلحين يرد في كتب النقد القديم، ولا قال بذلك علماء الشعرية العربية، إلا أنهما ترددا، بقوة، في السجال النقدي الذي صاحب أو أعقب ظهور حركة الشعر، ثم قصيدة النثر تاليا. حصل خلْطٌ لدى كثيرين في استخدام مصطلح العمود، واستغل البعض منهم ذلك لحرق المصطلح وشحنه بدلالة قدحيةٍ ومضمون أيديولوجي مغرض؛ فلم يكن المقصود بالقصيدة العمودية، ولا الشعر العمودي، ما توافر فيه من عمود الشعر بخصائصه التي تُقر بقدرة الشاعر وامتلاكه ناصية القول الشعري، بل هو بالأحرى كل قصيدة تنهج نمط الشكل القديم والبناء التناظري ذي الشطرين المتقابلين: أسبقية النظْم وخطاطاته المعدة سلفا، من حيث الوزن والقافية.
كل قصيدة موزونة ومقفاة ومتناظرة الشطرين هي قصيدة عمودية، بغض النظر عن شعريتها من عدمها. وعلى هذا النحو، بدأ السجال ووُجه بمقدماته ونتائجه المعروفة. هكذا تم تصنيف كل الشعر العربي الذي كُتب قبل ظهور تلك الحركة تحت يافطة الشعر العمودي على نحو تجميعي لا تاريخاني، واعتباره نوعا من الشعر، مقابل الشعر الحر، والشعر المنثور الذي أخذ صفة قصيدة النثر وتَلبس بها في أغلب الأوقات.
يبدو مصطلح (القصيدة العمودية) ـ في ما أزعمه – خادعا وفضفاضا، لكننا عندما نستعمله اليوم فإننا لن نهجر ميدان السلط الذي ترتب عليه السجال النقدي، إذ حل العرف الذي جرى فيه محل الأصل في العلم الشعري. ومع ذلك، في إمكاننا أن نراجع النظر فيه ونوجهه بدلالته الاصطلاحية التي تأخذ باعتبار تاريخيته ونجاعته في التمييز والتقويم، دون أن نعمى عن مدى مرونته وانفتاحه على العصر، وتلاقحه مع بقية أشكال الشعر، التي استجدت إلى أيامنا، إذ ما زال الشعراء من كل الأعمار والحساسيات يتعاطونه ولم يعدموا الإبداع من خلاله.
وإذن، نعني بمصطلح القصيدة العمودية تلك القصيدة التي توافر لها ما يأتي من خصائص الشكل ما لا يقعد عن تحديثها والتماس شعريتها وتحقيقها بدرجةٍ وأخرى، ومن ضمنها:
ـ أن تعتمد في بنائها الشكلي نظام الشطرين المتناظرين، أو يُعاد توزيعه بصريا؛
ـ أن تُنْظم في أحد البحور أو الأوزان الشعرية المعروفة؛
ـ أن تنتهي أبياتها بقافيةٍ وروي موحدين، وقد يحصل أن يجري تنويعٌ فيهما بنسبة ما،
ـ أن تنتظم في مقاطع ألفبائية أو مرقمة، أو تكون معلومة بأيقونات وإشارات ورموز هندسية؛
ـ أن تطول أبياتها أو تقصر حسب المناخ النفسي والتدفقات الشعورية لذات الكتابة،
ـ أن تتصل الأبيات في ما بينها اتصالا عضويا لا اختلال فيه؛
ـ أن تتحرك داخل موشورٍ من الموضوعات والثيمات والأغراض التي تؤديها بطريقة جديدة لغة ورؤية وتصويرا، ومن الأساليب الحديثة التي تقف بها عند غنائيتها (أسلوب سردي، ملحمي، درامي..) مع ما يستتبع ذلك من استخدام طرائق الرمز والانزياح والتكثيف إسوة بباقي أشكال الشعر الأخرى.
نظم وارتداد
في تاريخ الشعر المغربي الحديث، ترد أسماء علال الفاسي، ومحمد المختار السوسي، ومحمد بن إبراهيم الملقب بشاعر الحمراء، وعبد المالك البلغيثي، ومحمد الحلوي، وسواهم، باعتبارهم شعراء عموديين؛ أي مترسمين العرف الشعري التقليدي. لكن كانت لحظتهم إيذانا بميلاد شعر النهضة في المغرب، وهو شعر يلتقي في صيغته بصيغة المدرسة الإحيائية. ولم يكن هذا الواقع يخلو من صراع بين القدماء والمجددين، كان يرجح أحيانا لصالح الأوائل بسبب ارتباطهم بالمؤسسة والذائقة العامة، وأحيانا أخرى لصالح كفة أنصار التجديد، بحكم نشاطهم النقدي ونجاعة تصوراتهم في ضوء المفاهيم الجديدة التي آمنوا بها، وشرعوا في نشرها وترسيخها، متأثرين بالرافد الرومانسي المشرقي أو الأوروبي الحديث.
وقد انطلقت مسيرة الشعر الحديث في المغرب رسميا مع شعراء جيل الستينيات، الذين انفتحوا على حركة الشعر الحر، ثم تطور مع الأجيال اللاحقة التي كانت تؤمن بالجديد وتعلن رفضها للتقاليد الشعرية القديمة، وترى أن القصيدة الحديثة، التفعيلية أو النثرية لاحقا، تُجسد موجاتٍ من زخم التجديد والرغبة في مسايرته، تبعا لرؤى الشعراء، وحساسيات ذواتهم وعصرهم الذي كانوا يعبرونه. وفي الوقت الذي كانت تحصد فيه هذه القصيدة نجاحا مُطردا، وتتطور بشكل متنامٍ على يد شعراء ملكوا الموهبة والخبرة بأدوات الشعر وعاركوا مضايقه، وبالنتيجة تُوسع دائرة تلقيها تباعا، كانت قصيدة الشعر العمودي تفقد تدريجيا حلبة القول الشعري للأولى، وتنحدر إلى طريق مسدود بعدما غلبت عليها النزعة «المناسباتية» الفجة التي جلبت عليها أدعياء الشعر وناظميه بلا طائل، فبدت خلوا من التجويد الفني وصدق التعبير وحرارته. عشرات الشعراء النظّامين الذين تهافتوا على القصيدة العمودية وتصنعوها في مناسبات «عيد العرش» لم يعد يذكرهم أحدٌ، لكن صنيعهم حُسِم لصالح الشعراء المحدثين، الذين بادروا إلى التجديد من الأول.
ومع ذلك، ظلت القصيدة العمودية تتردد في خضم هذه الحقب الشعرية، بل تبزغ وتثير الاهتمام بها على أيدي شعراء متمكنين زاوجوا بينها وبين القصيدة الحرة، وأحيانا تأتي عندهم للرد على المتهافتين والجهلة بالشعر وشرطه الإيقاعي؛ من أمثال: حسن الأمراني، وأحمد بلحاج آية وارهام، وأمينة المريني، ومصطفى الشليح، وإسماعيل زويريق، وعبد السلام بوحجر وغيرهم.
عودة العمودي
كانت القصيدة العمودية في المغرب تعرف فترات انتعاش وركود تبعا لحضورها في المشهد الشعري، واهتمام المؤسسة الأدبية وإعلامها بها، ومدى فاعلية ممثليها في السجال النقدي، وتأثرهم بشعراء العمود المشارقة الكبار الذي طبقت شهرتهم الآفاق وأعادوا الاعتبار للقصيدة، بمن فيهم محمد مهدي الجواهري، ونزار قباني، وسعيد عقل وعبد الله البردوني. بيد أنه منذ بدايات الألفية الجديدة، عادت هذه القصيدة بقوة، وقد برز في هذه القصيدة من شعراء المغرب شباب تشبع بالثقافة الشعرية الموروثة وآمن بسيرورتها كرافد إبداعي، إلى حد أن تجد ديوان أحدهم قد كُتب كُله على نظام البيت الأصلي. نذكر في طليعتهم: محمد عريج، ورشيد الياقوتي، وياسين عبسلام، والطاهر لكنيزي، وبوعلام دخيسي، عبد الرحيم كنوان، والطيب هلو، وحليمة الإسماعيلي، ورشيد العلوي، ومحمد حجو، ومحمد شنوف، ومولاي الحسن الحسيني، ومحمد العياشي، وعبد العالي كويش، وأحمو الحسن الأحمدي، وخالد بودريف، وياسين حزكر، وأحمد الحريشي، وعمر الراجي، ومحمد الساق، وخلود بناصر، تمثيلا لا حصرا. ومعظم هؤلاء الشعراء الشباب برز اسمه بعد مشاركته في برنامج «أمير الشعراء».
والمتتبع لمنجزهم في القصيدة العمودية راهنا، يرى أن لفيفا منهم يحاول استثمار معطيات التراث الشعري، بناء وبلاغة وتصويرا، دون أن تقعد بها العادة عن انفتاح على العصر والتجديد في لغتها وموضوعاتها وطريقة نظرها للذات والعالم، وربما استفاد بعضهم في الأمر من تقلبه بينها وبين قصيدة التفعيلة، أو قدم إليها من علم أو صنعة بين يديه. وقد بدت اللغة الشعرية في قدر لا يستهان به من نماذجها المتحققة، بسيطة ومتخففة من صور المعجم والبلاغة القديمين، كما خفت الداعي المناسباتي، إلا إذا كان ذريعة لكي يبرز الشاعر مواقفه وهمومه من الواقع السياسي والاجتماعي الضاغط، وخفتت معه النبرة الخطابية التي كانت دائما ما تُصاحبه في مثل هذه الموضوعات، مصطبغة بلبوس ساخر ولوذعي، كما في شعر رشيد الياقوتي. وتحت تأثير الواقع الشعري الجديد، مال كثيرٌ من هؤلاء الشباب؛ مثل رشيد العلوي ومحمد العياشي وياسين عبسلام تمثيلا، إلى الاهتمام بالذات في مستوياتها الوجدانية، سواء بأسلوب يقترب من الغنائية، أو يرتقي إلى التعبيرية الرمزية.
كأن يتخذ هذا الشاعر من غرض الغزل سانحة ليُعبر عن تجربة وجدانية بأسلوبٍ غنائي يستلهم الطبيعة، فيما هو يجعل الحب الذي يتحسسه بين دخائله امتدادا نقيا للوجود وأسراره، ثُم لا يتخذ المرأة التي يشغف قلبه بها امرأة حسب، بل أنثى المثال التي تيمَتْهُ، ورمزا يستجير به من واقع ميؤوس منه. ومثل هذا الأسلوب نجده يتكرر عند غير واحدٍ منهم، ممن تأثروا بالاتجاه الرومانسي، فوقفوا بالشكل الشعري عند جانبه الغنائي، ومنهم من تجاوزه إلى استثمار الجانب الدرامي فيه، ولاسيما من طرف شعراء استفادوا من تقنيات الكتابة الجديدة وتمثلوها في أبعادها التعبيرية والرمزية التي تعيد بناء تصورها للغة ودلالاتها وتستثمر التناص التاريخي والديني، بمن فيهم محمد عريج ومصطفى ملح والطيب هلو.
فيما كرس شعراء آخرون جزءا مهما من شعرهم للمديح النبوي، الذي عرف به المغاربة منذ أيام القاضي عياض؛ وقد سطع بينهم نجم الشاعر إسماعيل زويريق الذي عبر في ديوانه «على النهج» بنفسه الشعري الطويل، عن هذا المنحى، منتهجا فيه أسلوب المعارضة ومترسما خطى الشعراء القدامى من أمثال كعب بن زهير، والإمام البوصيري، والبحتري، والمعري وابن النحوي. كما ارتقى الموضوع الشعري لدى البعض الآخر ليأخذ تَجلياتٍ روحية وأبعادا إشراقية وصوفية، مثلما هي الحال عند الشاعر أحمد بلحاج آية وارهام؛ إذ ترتقي الذات الشاعرة إلى مصاف الرمز، وهي تبتهل في محراب الحب بقدر ما تتشوف للانطلاق والانعتاق من مهوى الجسد. ومع الشاعرة أمينة المريني تبلغ اللغة درجة من الشفافية إذ تُعبر عن كنه الذات وتجوهرها في عالم يُبَنينه الخيال الصوفي ومكاشفاته، بقدر ما ترتفع في معاناتها مع الوجود وعماء أسمائه إلى الرغبة في من مفارقة الجسد والانغمار بماء المطلق وتشهياته.
وإذا بدا المشهد الشعري المغربي اليوم تهيمن عليه قصيدتا النثر والتفعيلة على التوالي، وقد حظيتا بحظوة الإعلام والمصاحبات النقدية واصطفاف المريدين وإقبالهم عليهما بحق وغير حق، فإن قصيدة العمودية التي عرفت تراجعا وانحسارا لأسباب متنوعة نجملها بعضها في رحيل رُوادها تباعا، وتهميشها إعلاميا، وتجني النظّامين الذين أفقروها من روح الإبداع، تحاول اليوم أن تستعيد موقعها داخل المشهد الشعري ليس في المغرب وحده، بل معظم البلاد العربية؛ كأن نبوءة الشاعرة نازك الملائكة تتحقق على أرض الواقع، والتي أطلقتها في لحظة يأس عارمة: «وإني على يقين من أن تيار الشعر الحر سيتوقف في يوم غير بعيد، وسيرجع الشعراء إلى الأوزان الشطرية بعد أن خاضوا في الخروج عليها والاستهانة بها».
لكن السؤال الأساسي: هل عودة العمودي تجسد ارتدادا جماليا، أم هو رد على أزمة الشكل التي يتخبط فيها الشعر العربي المعاصر؟
كاتب مغربي
“القدس العربي”