باتريك لورانس – (كونسورتيوم نيوز) 14/8/2022
هل لاحظتم آخر ما يخرج من أوروبا الشرقية –من الاستونيين، والليتوانيين، واللاتفيين والتشيكيين، ودعونا لا ننسى الأوكرانيين؟ فجأة يعتقد الجميع أنها فكرة جيدة البدء في إغلاق الباب في وجوه الروس، جميع الروس، وإبقائهم خارج أوروبا. هذا كل شيء: لا مزيد من الروس في أوروبا لأن… لأنهم روس.
نهاية القصة، كما يحب بعض الناس أن يقولوا.
هذا عمل مريض. ثمة مرض قيد العمل في هذه المقترحات. إننا نستمع إلى أقوال أناس يائسين، شاعرين بفقدان الأمان ومحبَطين.
وأستطيع أن أتعقب، تحت كل هذا العداء المباشر المرتبط بالأزمة الأوكرانية، حالة من اضطراب ما بعد الصدمة الذي ما يزال متبقياً من الحقبة السوفياتية.
لعل آخر شيء يريد المرء القيام به مع الأشخاص الذين يعانون من مرض نفسي هو الاستماع إليهم كما لو أنهم كانوا حكماء بشأن الأمور التي تسبب لهم الاضطراب من الأساس.
نعم، يمكنك الاستماع إليهم وهم يتحدثون عن مشاكلهم؛ ثمة في هذه الحالات مسألة علم نفس جماعي.
ونحن نبذل قصارى جهدنا لتصويبها بحيث يستعيدون صحتهم النفسية ويعودون إلى التوازن.
لكن الذين يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة لا ينبغي أن يُمنحوا سلطة الحكمة عندما يتعلق الأمر بأسباب اضطرابهم.
بطبيعة الحال، باعتبار أن الغرب هو الغرب وأوكرانيا هي الفوضى، فإننا نستمع الآن إلى الإستونيين والآخرين كما لو أنهم هم الذين يعرفون أفضل ما يكون عن الاتحاد الروسي وشعبه.
ولذلك، فإن الفكرة التي كانت تعوم في الأيام القليلة الماضية هي: نعم، دعونا نُبقي الروس خارج أوروبا؛ الروسَ العاديين الذين يأتون لينظروا إلى الكاتدرائيات واللوحات الفنية، ويتناولون عشاء فرنسيا وكأساً من البربون.
وكما قال فولوديمير زيلينسكي، رجل الدولة العظيم في عصرنا، في مقابلة مع صحيفة ”الواشنطن بوست” نشرت في 8 آب (أغسطس): “أياً كان نوع الروس… اجعلوهم يذهبون إلى روسيا”.
وما يقوله “فولودي العظيم” يجب أن يكون صحيحاً، بطبيعة الحال، حتى لو أنه انتقل من الكوميديا التلفزيونية إلى الرئاسة الأوكرانية مثل طفل ضائع في حركة المرور المزدحمة في مدينة.
إذا كانت لدى أي أحد فكرة سليمة، عاقلة ومتوازنة عن كيفية التعامل مع روسيا، فهو فولوديمير زيلينسكي.
الجميع يعرف هذا. عندما يتباهى الأوكرانيون، كما يفعلون في كثير من الأحيان، بأنهم يعتبرون الروس حيوانات، وليس بشرًا، علينا أن نتقبل حقيقة أنهم يعرفون ما يتحدثون عنه.
كي نبدأ من البداية، كانت دول البلطيق الثلاث، وبولندا وجمهورية التشيك، قد توقفت مسبقاً عن إصدار تأشيراتها الخاصة للروس في نهاية تموز (يوليو).
ويبدو أن تعليقات زيلينسكي، إذا أخذنا التسلسل الزمني للأحداث في الاعتبار، قد أعطت الآخرين على الجبهة الشرقية لأوروبا الثقة للذهاب إلى مغامرة تعميم الفكرة على كل أوروبا.
في اليوم التالي لمشاركة زيلينسكي أفكاره مع صحيفة “الواشنطن بوست”، خرج كاجا كالاس، رئيس وزراء إستونيا، ليقول: “توقفوا عن إصدار التأشيرات السياحية للروس.
إن زيارة أوروبا امتياز وليست حقاً من حقوق الإنسان”. وبعد يومين، “تودي بوم”، كما اعتاد والدي أن يقول: أعلنت حكومة كالاس أنها ستتوقف عن احترام تأشيرات شينغن -التي تسمح للزوار بعبور حدود 26 دولة أوروبية- في غضون شهر من إعلانها.
وقالت ماريكا لينتام، التي تدير مكتب أوروبا في وزارة الخارجية الإستونية، لصحيفة “لوموند” الفرنسية أن حكومتها تعتبر هذه “قضية أخلاقية”.
من المؤكد أن لينتام محقة في ما ذهبت إليه.
على الفور، أيد الفنلنديون فكرة كالاس للضغط على بقية أوروبا لكي تحذو حذف كييف وتالين وتفرض حظراً من الاتحاد الأوروبي على الروس. ثم انضم إليهم اللاتفيون.
وأعلن يان ليبافسكي، وزير الخارجية التشيكي، بعد يوم واحد أنه سينقل هذا الاقتراح إلى قمة وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في نهاية هذا الشهر.
في فئة الذين يعانون من عوز في الكرامة، ثمة الليتوانيون. وهم الآن يدرسون تشريعاً لحرمان الليتوانيين المتجنسين الذين يقولون أشياء تفضيلية أو يفكرون بأفكار إيجابية عن روسيا من الجنسية.
ويأتي هذا ردًا على الأخبار التي وردت الأسبوع الماضي -أخبار مروعة وفظيعة- عن أن اثنين من نجوم التزلج على الجليد الليتوانيين، أحدهما روسي المولد ومجنس، سيشاركان في مسابقة ستقام في سوتشي، المنتجع الروسي على البحر الأسود.
تزلج على الجليد الروسي. هل يمكنك التفكير في أي شيء أسوأ من هذا؟
ولا تفترض أنك سمعت نهاية الكلام. يضغط نظام زيلينسكي الآن على البيت الأبيض لفرض عقوبات على جميع البنوك الروسية حتى لا تتمكن من القيام بأعمال تجارية بشكل أو بآخر في أي مكان.
يشرع عقلي في الانجراف نحو فرساي، 1919، عندما ساد شيء غير الحكمة في صياغة تسوية عقابية مفرطة فُرضت على الأمة الألمانية المهزومة.
وكان كينز محقاً في كتابه “العواقب الاقتصادية للسلام”: الإفراط في القتل يضر في النهاية بالقتلة المفرطين في القتل.
هذه المحظورات والحظر المقترح ليست أفعالا تقوم بها دول واثقة وتشعر بالأمان. لا أعتقد أنه من قبيل الصدفة أن يتم طرحها بينما يصبح من الواضح أكثر من أي وقت مضى أن نظام كييف يسلك طريقا خاسرا في صراعه مع روسيا، وأن الغرب قد أساء قراءة هذه الأزمة من أعلى إلى أسفل.
إن الإحباط واليأس موجودان في الخارج، أيها القراء.
سوف أترك للمحامين تحديد ما إذا كان هذا الحظر سيُعتبر حالة عقاب جماعي، الذي هو، بطبيعة الحال، مخالف للقانون الدولي.
لكنني لست في حاجة إلى محام ليخبرني أن الجناح الشرقي لأوروبا يدفع الآن بقضية “الشخصية الوطنية” ضد روسيا. وهذا مشين بشكل فظيع.
كنت قد كتبت بإسهاب عن تحليلات الشخصية الوطنية في أماكن أخرى. باختصار، ترى هذه النظرة أن الشعب الفلاني يتصرف هكذا لأن هذا هو ما هم أفراده عليه، ولأن هذه هي الطريقة التي يتصرفون بها.
لقد غزا اليابانيون الصين في الثلاثينيات لأن هذا هو ما يفعله اليابانيون. والألمان اعتدوا في الثلاثينيات والأربعينيات لأنهم ألمان، ولأن الألمان دائماً سيعتدون. وتقدم النظرة الأوكرانية إلى الروس مثالاً مباشراً على موقف “الشخصية الوطنية”.
يحب نظام بايدن الترويج لأطروحات الشخصية الوطنية، وليس أقل ذلك ضد الروس. إنه يجدها مفيدة للغاية لأنها تحافظ على جنون العظمة الوطني وتديم الحماس لصراع لا معنى له.
التأثير الصافي لأطروحات وحجج الشخصية الوطنية هو التعتيم على السياسة والتاريخ، التي هي المحددات الحقيقية لسلوك الأمة.
ولك أن تراهن على أن الأوروبيين والأميركيين عاكفون الآن على تفادي مواجهة التاريخ والسياسة اللذين أنجبا الأزمة الأوكرانية.
وفي الحقيقة، تعود هذه القصة إلى 30 عامًا مضت، عندما طلب الروس بلباقة من حلف شمال الأطلسي ألا يتوسع إلى حدودهم شرقًا في حقبة ما بعد الاتحاد السوفياتي، وسرعان ما كسر الغرب، مبالِغًا في استعراض عضلاته، كلمته بشأن هذه النقطة.
ولكن لا، إن توسيع الناتو لا علاقة له بالصراع الأوكراني، كما يمكننا أن نقرأ في صحافتنا في أي يوم من أيام الأسبوع.
لماذا سيعتقد أي شخص ذلك؟ الأمر كله يتعلق بمن هم هؤلاء الرّررروس؛ ما كانوا عليه دائمًا وما فعلوه دائماً.
لطالما اعتقدتُ أن اضطراباً نفسياً معيناً قد أصاب المدار والجمهوريات السوفياتية السابقة منذ سقوط جدار برلين؛ جنون الشرق، سأسميه. لأسباب مفهومة للغاية، يبدو هؤلاء غير قادرين على الحكم على الأحداث المتعلقة بروسيا بشكل سليم. ثمة مقياس من اللاعقلانية يلون سلوكهم في العلاقات مع موسكو. نفسياتهم تحمل ندوبًا عميقة.
ويترتب على ذلك أن آخر الناس الذين يتحولون إلى مرشدين للغرب في علاقاته مع الشرق هم الأوروبيون الشرقيون والذين الذين يعيشون في الجمهوريات السوفياتية السابقة.
ويتبع ذلك، بطبيعة الحال، أن هؤلاء هم أول الناس الذين يلجأ إليهم الأوروبيون الغربيون والأميركيون بينما يقومون بصياغة السياسات الخارجية والأمنية التي تحدد علاقاتهم بين الشرق والغرب.
أولئك الأوروبيون الشرقيون، أولئك البلطيق: لقد عاشوا ذلك، كانوا هناك، لا بد أنهم يعرفون.
وهنا سوف أشير إلى الحالة الأوكرانية. يجب أن نبقي هذه المشكلة في الذهن بينما نأخذ مقياس سلوك كييف -ليس تجاه الروس فقط، ولكن أيضا تجاه 40 في المائة من الأوكرانيين في المقاطعات الشرقية الذين يتحدثون الروسية كلغتهم الأولى. أولئك الذين يعتبرونهم أشخاصًا غير متوازنين. أقول هذا ليس للتحقير، وإنما من أجل الفهم.
تتعلق الحالة الأكثر مدعاة للأسف والأكثر تكلفة للخطأ الذي يرتكبه الغرب في هذا الصدد بزبيغنيو بريجنسكي، الذي شغل منصب مستشار الأمن القومي للرئيس الأميركي جيمي كارتر لمدة أربع سنوات مدمرة بطريقة مصيرية، من العام 1977 إلى العام 1981.
ينحدر بريجنسكي من عائلة بولندية أرستقراطية كانت قد فقدت كل شيء عندما أخذ السوفيات بولندا إلى مجال نفوذهم بعد مؤتمر يالطا في العام 1945.
وكان قد رأى الكثير من النازيين خلال الحرب، لكنهم كانوا السوفيات هم الذين طوَّر ضدهم هوساً مدى الحياة.
وقال في مقابلة تأملية مع قناة الجزيرة في العام 2010: “لقد أثّر العنف غير العادي الذي ارتُكب ضد بولندا في تصوري للعالم، وجعلني أكثر حساسية لحقيقة أن قدراً كبيرًا من السياسة العالمية هو صراع أساسي”. هنا يكمن جوهر المسألة.
جاءت أسوأ لحظة في مسيرة بريجنسكي المهنية في أواخر العام 1979، عندما أقنع الرئيس كارتر، القابل للإقناع، بتقديم الدعم للمجاهدين الناشطين في أفغانستان حتى تتمكن الولايات المتحدة من إنزال ألـ”سوفس” (السوفيات) في فيتنامهم الخاصة.
هل يجب علي إنهاء الفكرة؟ وقد تسببت هذه الاستراتيجية بالفعل في خروج موسكو بأنف مدمى، لكنها أدت أيضا إلى ظهور تنظيم القاعدة، الذي أدى إلى ظهور كل هؤلاء السلفيين القتلة الناشطين في سورية، وهو ما أدى بشكل غير مباشر إلى ظهور تنظيم ما يسمى “الدولة الإسلامية في العراق وسورية” (داعش)، مما أدى إلى ظهور ميليشيات وحشية أخرى مثل “بوكو حرام” في نيجيريا، وما لا يستطيع أحد إحصاءه من الحركات العنيفة الأخرى في مختلف الأماكن.
هذا هو المكان الذي وضع فيه الاعتماد على حُكم قُطب مهووس بروسيا جيمي كارتر -وبقيتنا بطبيعة الحال.
والآن يريد الجناح الشرقي لأوروبا معاقبة الروس مرة أخرى.
وتستحق وجهة نظرهم، مرة أخرى، تفهم الغرب، بل وحتى تعاطفه، لأن جميع الذين يعانون من أشكال اضطراب ما بعد الصدمة يستحقون فهم وتعاطف أولئك الذين حولهم.
لكن موقفهم لا يجب أن يكون كذلك. إنه لا يستحق دعم الغرب ودعمه وتعاونه. إنه يستحق رفض الغرب. وهو يستحق مشورة الغرب السليمة -فقط لو كان لدى الغرب أي مستشارين عاقلين ليقدموها من الأساس.
*باتريك لورانس Patrick Lawrence، مراسل صحفي أجنبي لسنوات عديدة، وخاصة لصحيفة ”إنترناشيونال هيرالد تريبيون”. وهو ناقد إعلامي وكاتب مقالات ومؤلف ومحاضر.
كتابه الأخير هو ”لم يعد هناك وقت: الأميركيون بعد القرن الأميركي” Time No Longer: Americans After the American Century
*نشر هذا المقال تحت عنوان: All Disquiet on the Eastern Front
“الغد”