في دنيا الفن الحديث والواقعية الجديدة، يتفرد المشروع الفني للتشكيلية الفرنسية الأمريكية نيكي دو سان فال 1930-2002. بمراحله المختلفة وتنوعه في أعمال الرسم والنحت البارز والمجسم، والتوجهات الفكرية التي أرادت نيكي التعبير عنها، فكل عمل من أعمالها يحتوي على الكثير من الرسائل التي توجهها للعالم، والأفكار التي تعلن عنها، والأفعال التي تتخذها في مواجهة سلطة ما، أو ماض مشحون بالآلام والمخاوف. يظهر هذا من خلال مجموعة أعمال تندرج تحت ثيمة معيّنة، أو مرحلة تميزت بأسلوب فني مبتكر، استحدث طرقاً غير معهودة في الخلق الفني، وهناك بعض الأعمال المنفردة، التي يُعد الواحد منها بمثابة مرحلة فنية كاملة، ومشروع فكري ضخم وفلسفة فنية خاصة، وتصور إنساني شامل يتجوهر فيه معنى الحياة والفن.
المعركة الفنية
من فتاة جميلة أرستقراطية، تظهر صورها الناعمة الرقيقة على غلاف مجلة «فوغ» وغيرها من المجلات المشهورة، وهي ترتدي الملابس التي توافق أحدث خطوط الموضة، وتتزين وتصفف شعرها وفق ما رسمه المتحكمون في هذه الخطوط. من هذه الفتاة الجميلة الصامتة، تحولت نيكي إلى واحدة من النساء الأكثر تحرراً في العالم، وتمرداً على القيود الاجتماعية والثقافية والفنية كافة. واتخذت خطوات واسعة نحو المستقبل برؤية واضحة، وإيمان فكري راسخ في ما تعتقده، وتجد أنه الأفضل لهذا العالم. كان فنها هو معركتها الكبرى التي تخوضها باندفاع مستمر نحو الأمام، والفنان الحقيقي هو ناشط في حرب من الحروب طوال الوقت، فإما أن يكون ناشطاً في الحرب على الخوف، أو في المعركة الأزلية الدائرة دائماً بين القبح والجمال، أو في الحرب على السلطة بمختلف أنواعها، أو في غير ذلك من الحروب. كانت نيكي محاربة قوية، لا توحي ملامحها الجميلة ورقتها الجسدية، بما يشتعل في داخلها من رفض وتأملات غاضبة تجاه الكثير من الأمور. وهي كأجدادها من الفرسان النبلاء Des chevaliers بأصولهم العريقة، كانت لديها روح القتال حتى النهاية.
عندما كانت هذه الجميلة في الثالثة والعشرين من عمرها، كانت زوجة وأما لطفلة، وكانت أيضاً نزيلة إحدى المصحات النفسية. تتلقى العلاج وتخضع لمحاولات ترميم الذات التي انكسرت وتهشمت، تحت وطأة انهيار عصبي شديد واكتئاب حاد، كاد يجعلها تتخلص من حياتها.
عندما كانت هذه الجميلة في الثالثة والعشرين من عمرها، كانت زوجة وأما لطفلة، وكانت أيضاً نزيلة إحدى المصحات النفسية. تتلقى العلاج وتخضع لمحاولات ترميم الذات التي انكسرت وتهشمت، تحت وطأة انهيار عصبي شديد واكتئاب حاد، كاد يجعلها تتخلص من حياتها. في المصحة كان اللقاء الأول بين نيكي والفن التشكيلي، بدأت تمارس الرسم والتجسيم كأحد وسائل التعبير المساندة للعلاج الطبي. جاء الانهيار العصبي بعد اكتشافها لخيانة زوجها مع جارتها، أما الاكتئاب فقد راكمته عبر السنين، منذ أن تعرضت في سن الثانية عشرة، لمأساة نفسية كبرى تسبب فيها الأب. ولا يمكن القول بأن تمرد نيكي على السلطة الأبوية والذكورية بشكل عام، يعود إلى اللكمات النفسية التي سددها لها الأب والزوج الأول وحسب، لكنهما كانا المحفز الذي فتح عينيها على المأساة العامة، المتمثلة في النظرة إلى المرأة والأنوثة وما يمارس عليها من تسلط ذكوري. فصار الأمر ملفاً مفتوحاً لديها، ومشروعها الفني والفكري الأضخم من حيث الإنتاج وسنوات الامتداد، فكان هو المشروع الذي استمر لعقود متتالية خلال مسيرتها الفنية. والمعروف أن علاقة نيكي بأمها الأمريكية لم تكن جيدة على الإطلاق، لكنها تظل رغم كل شيء أقل سوءاً من العلاقة مع الأب الفرنسي الأرستقراطي بالغ الثراء. وكما كان للذكور في حياتها دور الهدم والتحطيم الذي لعبه كل من الأب والزوج الأول، فإن الزوج الثاني كان له دوراً عظيماً في إعادة البناء على أفضل ما يكون. وهو النحات السويسري جون تانغلي، الذي كان شريكا فنياً مثالياً لها، وداعماً كبيراً طوال الوقت، نفذا معاً بعض الأعمال الفنية، وساعدها في إنجاز عدد من أعمالها الخاصة، لذلك لا يمكن وصف معركة نيكي دو سان فال الفنية بالمعركة الذاتية البحتة، هي ذاتية في أساسها وفي جزء كبير منها، لكنها مع الوقت ارتفعت وسمت فوق الذاتية، وصارت معركة عامة تخوضها أنثى قوية باسم النساء كافة في كل أرجاء العالم، على اختلاف أشكالهن وأجسادهن وألوانهن.
نانا في مواجهة العالم
أخذت نيكي تعمل على إظهار الأنوثة وتضخيمها في مواجهة الذكورة والعالم بأكمله، لم تُظهرها خاضعة مستكينة، أو جميلة صامتة، على هيئة فتيات جميلات بملامح رقيقة ونظرات بديعة وابتسامات خلابة. ولم تفعل العكس أيضاً بأن تجسم فتيات مسترجلات يخفين عمداّ ملامح الجمال ومعالم الأنوثة لديهن، لكن ما فعلته هو أنها ركزت على أدق مواطن الأنوثة، التي تميز المرأة جسدياً وبيولوجياً، وتجاهلت ملامح الوجه وشكل الشعر على سبيل المثال. ذهبت نيكي مباشرة إلى الجسد، ومناطقه التي لها أكثر من وظيفة جمالية وبيولوجية، كالرحم الذي تأتي منه الحياة، ويعد الواحة الآمنة الأولى التي يحن البعض إليها حنيناً غامضاً، رغم أنهم لا يتذكرون أوقاتهم التي قضوها هناك. وكذلك ركزت نيكي على الصدر والردفين، وضخمت هذه المناطق بشكل مبالغ فيه ومتعمد، وربما لا يجد المرء لدى هذه الفنانة، منحوتة لجسد أنثوي نحيل رشيق، أو حتى بحجم معقول، فالنساء لديها ممتلئات، يحملن مؤخرات ضخمة وأفخاذ منتفخة هائلة الحجم، وصدر كبير بارز، وكلهن يحملن اسم نانا.
صنعت الفنانة طريقتها الخاصة الجديدة في الرسم والنحت، وتحررت من أي قيود أو قواعد فنية موروثة. يظهر هذا التحرر في استخدام المواد والموضوع الفني وأسلوب التناول، ويحتل التجسيم المساحة الأكبر في مشروعها الفني.
كانت نيكي تبدع النانا تلو الأخرى باختلاف في الشكل واللون والموضوع، منفردة أو مجتمعة مع عناصر أخرى، وكأنها باتت مصدراً لأفكار لانهائية. توحي مجسمات النانا بالقوة والمرح والحرية والانطلاق، ويتم التعبير عن كل هذا من خلال الحركة والموسيقى الداخلية للقطعة الفنية، والألوان الجريئة الساطعة، والزخرفات والتكوينات الهندسية المرسومة على جسد النانا، وسط الكتل اللونية الموحدة، كما كانت تشير أحياناً إلى تنوع لون البشرة، فهناك مجسمات لنانا ذات بشرة داكنة، وكانت نيكي تؤمن بقوة ذوي البشرة الداكنة من النساء والرجال، وتتمنى أن يحصلوا على حقوقهم السياسية كافة، وأن ينالوا سلطة الحكم في بعض البلاد، كما كانت تؤمن بقوة الأنوثة بشكل عام، وتتمنى أن تنتصر هذه القوة. نانا هي المرأة، هي الأنثى المطلقة، التي تواجه العالم بقوتها وحريتها، وعدم اكتراثها لآراء الآخرين ونظرتهم إليها، ورفضها للصور النمطية والقوالب التي لا يراد لها الخروج عن أطرها المحددة، وبأنوثتها التي طالما أشعرها المجتمع أو البعض، بأن هذه الأنوثة ما هي إلا عبء تحمله وتشقى به.
صنعت الفنانة طريقتها الخاصة الجديدة في الرسم والنحت، وتحررت من أي قيود أو قواعد فنية موروثة. يظهر هذا التحرر في استخدام المواد والموضوع الفني وأسلوب التناول، ويحتل التجسيم المساحة الأكبر في مشروعها الفني، ويتميز بخطوطه وأبعاده وارتفاعاته وألوانه. ويلاحظ انعدام الخطوط الحادة لديها، ونعومة المنحنيات والملتويات. والحركة أيضاً من أهم ما يميز منحوتاتها، فعلى الرغم من أن القطعة الفنية جامدة ثابتة، إلا أنها تحتوي على الحركة في داخلها، يشعر الرائي أن هذه الحركة نوع جديد من التعبير عن الأنوثة، أو أنها تمثل حالة هروب دائم من الجمود. وتتسق الحركة مع الخطوط التي تنعرج وتنحدر، ومع التقارب أو التباعد بين أجزاء معينة من الجسد. كل هذا يعكس منظورها وما تريد أن تقوله من خلال الصياغة التشكيلية، والمقاربة الجديدة لتشريح الجسد الأنثوي بنسبه ومقاييسه، ومعالم الأنوثة ومعانيها. بدأت مرحلة النانا في الستينيات واستمرت حتى التسعينيات، حيث أخذت الأفكار الفنية تتوالد بلا توقف طوال هذه السنوات.
الرسم بالطلقات
من غضب هائل انطلق فن سان فال، وتفجرت مواهبها لتسيل فناً وإبداعاً، كما تتفجر أكياس الأصباغ التي كانت تطلق عليها الرصاص، فتفجرها لتسيل ألواناً هي الأخرى. كانت هذه الألوان تحدد اتجاهاتها بنفسها كيفما اتفق، دون تدخل من الفنانة التي بدأت خطواتها الاحترافية بمرحلة فنية تعرف باسم Les tirs حيث كانت تعد لوحاتها المرسومة أو لوحات النحت البارز، وتكون هذه اللوحات كبيرة الحجم عادة، وتثبت عليها بعض المواد كالأقمشة والأزرار أو القطع المعدنية. ثم تضع هذه اللوحات في أماكن واسعة مفتوحة وسط حضور الجمهور، هذه اللوحات لا تكون مكتملة، ولا يتم العمل الفني إلا بوقوف الفنانة أمام لوحتها ممسكة ببندقيتها، لتصوب في اتجاه أكياس الأصباغ المثبتة أعلى هذه اللوحات. تطلق عليها الرصاص الذي يفجرها، فتسيل منها الألوان المختلفة وتجري في اتجاهات عشوائية، فتتشكل اللوحة وتكتمل أمام الجمهور مباشرة. كما كانت نيكي حريصة على مشاركة المتلقين أحياناً في عملية التصويب وإطلاق الرصاص، لأنها كانت ترى أن العمل الفني شيء واحد مشترك بين الفنان والمتلقي، وأن العملية الإبداعية لا تكتمل إلا في هذه المشاركة على اختلاف صورها.
عندما كانت نيكي تطلق الرصاص على لوحاتها، كانت تطلقه في الوقت نفسه على غضبها الداخلي، وعنفها الكامن في نفسها، وربما على رغبتها في الانتقام. وربما كان نوعاً من الهجوم على المجتمع أو القدر.
عندما كانت نيكي تطلق الرصاص على لوحاتها، كانت تطلقه في الوقت نفسه على غضبها الداخلي، وعنفها الكامن في نفسها، وربما على رغبتها في الانتقام. وربما كان نوعاً من الهجوم على المجتمع أو القدر. لا يقتصر الأثر الفني لهذه اللوحات على وقت إطلاق النار فقط، الذي هو الحدث الأهم بالطبع، لكنه يمتد إلى ما بعد ذلك، بعد أن تسكن الحركة وتجف الألوان. ومن يتأمل أيا من هذه اللوحات المرسومة بطلقات الرصاص، يشعر بالجرح النازف، والأصباغ التي سالت يوماً ثم جفت كدموع ملونة أو كدماء مختلفة الألوان، ويرى الندبات والجروح الغائرة. كأن هذه اللوحات احتفظت في داخلها بكل شيء، بالألم وعملية التخلص من الألم، بالغضب وعملية تفريغه، بالرغبة في ممارسة العنف، وإشباع هذه الرغبة وممارسة العنف بالفعل، لكن بطريقة تؤدي إلى القضاء على هذه الرغبة، وفي إطار لا يسمح بممارسة العنف الذي يؤذي الآخرين ويلحق الضرر بالنفس. وكانت كل لوحة تعبر عن شيء ما تريد نيكي أن تطلق عليه الرصاص، حبيب غادر أو ماض مؤلم، أو سلطة مكرسة ومجتمع غير عادل. أطلقت نيكي الرصاص على الكثير من غضبها، وتخلصت منه لتبدأ مرحلة فنية جديدة.
هي ـ كاتدرائية
من التجارب البارزة في مسيرة نيكي دو سان فال الفنية، ذلك العمل الفني أو تلك النانا العملاقة التي أقامتها في ستوكهولم، وسمته «هي ـ كاتدرائية». كانت هذه النانا ضخمة إلى درجة جعلتها أقرب إلى أن تكون مبنى صغيرا، ملهى أو كاتدرائية، أو الرحم العام الذي تعود إليه البشرية كلها. هذه المرة لم تقم نيكي باشراك الجمهور في العمل الفني فقط، بل أدخلته جسدياً ووجدانياً في قلب الفكرة الفنية، وجعلته يمر من خلالها، ليخرج منها وقد اكتسب شعوراً جديداً، ونظرة مختلفة للجسد الأنثوي. وعاش بالخيال لحظات ربما تلامس رغبته في العودة إلى الرحم. جاءت هذه النانا هائلة وجامعة ككاتدرائية يؤمها البشر، وقامت نيكي بصناعة هذا الهيكل العملاق بمساعدة آخرين بالطبع، وعلى رأسهم زوجها الفنان السويسري جون تانغلي. كان الجسد الأنثوي مستلقياً على ظهره، بارتفاع كبير يسمح للجمهور بالدخول إليه ومشاهدة ما يحتوي عليه هذا المجسم، من معرض لوحات فنية مصغر، وحانة لا تقدم إلا الحليب في منطقة الصدر، وسينما صغيرة تحتوي على عدد قليل من المقاعد، وحوض سمك، وأريكة مريحة لتبادل الحب، وتليفون عمومي، وماكينة بيع الساندويتشات. كل هذا يجده الجمهور عندما يدخل إلى تلك النانا العملاقة. كانت نيكي تحرص دائماً على إظهار قوة الأنوثة، وفي هذا العمل لم تقدم النانا في حالة مرحة، تتخذ وضعاً متمرداً أو مغايراً، بل أرادت أن تعبر عن المعاني الكامنة وراء مفهوم الأنوثة وداخل جسد المرأة، سواء كان هذا الجسد لعاهرة، أو لامرأة عادية، أو لامرأة تستطيع أن تكون أكبر من كل شيء، وأن تصير كوناً مصغراً في ذاتها.
آلة الحلم في الرباط
تتعدد أشكال النانا ومواضيعها لدى نيكي دو سان فال، ومن الصعب حصرها أو تناولها كلها. فهناك النانا المنفردة، أو المجتمعة مع نانات أُخر، أو مع عناصر مختلفة تماما كالأفعى مثلاً، التي هي من العلامات المهمة عند نيكي، وترتبط لديها بما سمته «عام الثعبان» الذي تعرضت فيه لصدمتها النفسية الهائلة عندما كانت في الثانية عشرة من عمرها. ومن أشهر أعمالها تحت هذه الثيمة منحوتة «شجرة الأفاعي». وأحياناً تجتمع النانا مع الرجل كما في منحوتة «الشاعر وملهمته» وتظهر النانا بنسب ومقاييس مغايرة للواقع، كما في منحوتة «غويندولين» وهناك النانا الصفراء والسوداء والنانا الراقصة. ولأعمال نيكي دو سان فال حضورها في الكثير من العواصم والمدن العالمية، في المتاحف والحدائق والمتنزهات العامة، والساحات والميادين. وتوجد مجسماتها في فرنسا وسويسرا وألمانيا والسويد وأمريكا وغيرها من الدول الأجنبية، أما الدولة العربية الوحيدة التي يُعرض فيها عمل من أعمال سان فال، فهي المملكة المغربية، حيث توجد واحدة من قطعها الفنية في ساحة متحف محمد السادس للفن الحديث في الرباط. والمنحوتة التي تحمل اسم «آلة الحلم» هي لنانا جالسة ترتدي ثوباً مزيناً بالقلوب الحمراء، وإلى جوارها مجسمات لأشكال مختلفة، دائرية ومنعرجة زاهية الألوان، تعبر عن اللعب والمرح الطفولي والانفتاح على الحلم.
كاتبة مصرية
“القدس العربي”