يتعامل الناقد يوسف اليوسف مع أي نص كما لو أنه ظاهرة من الظواهر الفكرية. وإذا انحاز لدرجة التعصب الأعمى للحظة واحدة من الشعر العربي، وهي لحظة الوقوف على الأطلال، وصراع الأثر مع الذاكرة، فقد نظر للرواية بمنظار تراجيدي أسود. وفي كتابه «مقالة في الرواية» يضع لنفسه ثلاثة أهداف هي «تحديد أسماء العباقرة الكبار، تعيين مزاياهم الطيبة، ومتابعة المزايا التي تفرز الرديء من الجيد».
وقد تبنى للإجابة على تلك التساؤلات المشروعة أطروحة برديائيف التي تقلل من دور «تصوير الواقع الخارجي». ورأى أن «النقد حساسية ذاتية، والعمل الجيد هو الذي تتم إضافته إلى بنية هذه الذات» لكنه لا يوضح لنا ماذا يقصد بهذا الكلام. وهل الذات هوية قومية أم دينية؟ أم أنها فضاء حضاري متجرد؟ ثم يهاجم النقد الموضوعي (يقول عنه المعياري) ويفضل عليه «الاحتكام للذوق السليم».
وعلى هذا الأساس يضع أعمالا تنتمي لمحاور مختلفة مثل «يوليسيس» لجيمس جويس و»مئة عام من العزلة» لماركيز و»أولاد حارتنا» لنجيب محفوظ في مربع واحد يسميه مربع «العطب». وهو بتعريفه «كل عمل يخلو من السمو والجمال، أهم عناصر الإبداع». ويتهمه بأنه «يكرر حياتنا ويعيش في الواقع اليومي المهجور». وهذا، في نظره، عيب يحرم الرواية من معيار إبداعي مهم هو «الحرية» ويسميه في مكان آخر «الحرارة» ولذلك يعتقد أن أوروبا لم تقدم لنا أي رواية جيدة بسبب ثقافتها الباردة. ويشترط لخلود العمل الأدبي:
1- أن لا يكون موضوعه صورة للواقع الرتيب والمنظور.
2- أن يحس برعشة الألم المثكل.
3- وأن يعتمد على الكشوفات والرؤيا.
وليتأتى لأي رواية شرط البقاء يجب أن تهدف إلى «التأثير في إيقاع البنية الداخلية للإنسان». والأعمال التي لا تحقق ذلك «تتسبب باغتراب كلي أو جزئي يضع الإنسان أمام حفرة عميقة». ويرى أن «قصة مدينتين» لديكنز و»جناح اليمامة» لهنري جيمس من الأعمال الناجية (بمعنى الناجحة). ولا يمكن مقارنتهما بسوق الرواية الأمريكية التي تعاني من عيوب ونواقص عديدة. فهي «تركز اهتمامها على التاريخ وليس مثال الروح». ويلومها على اتباع مبدأ عارض وهو «التسلية» وإهمال «ضرورات التعبير عن أزمة وجودنا البشري». وقد نجم عن التسلية توثين الشكل الفني. وينسى يوسف اليوسف أنه في موضع سابق احتفل بالشكل المأزوم للقصة السورية الحديثة، وأكد أن «التجريب ساعد على رؤية الأعماق». عموما لا يستطيع أحد أن ينكر أن الأدب الأمريكي مثل طوافة تعوم على ثقافة مهاجرة. وأستطيع أن أعتبر أن «جيكل وهايد» لستيفنسون الصادرة عام 1886 (وهو عمل تخييلي من خارج حلقة المغامرات التاريخية) قدمت أدوات شعرية كان لا بد منها للأمريكيين، ليتطهروا من عيوب خيال الحكاية، وينتقلوا إلى أسطورة الواقع اليومي والعادي. وبفضل ستيفنسون تمكنت أمريكا من إيجاد رافعة فنية تسمح للعجائب الموروثة عن الأساطير بإضفاء طابع على إنسان الطبقة المتوسطة. وترافقت مع هذه النقلة عدة تحويلات. فقد حررت الجوهر الأمريكي من تصورات «الفرجيني» (لأوين وستر، منشورة 1902) وهي عن راعي البقر، الذي يفكر بعضلاته وبطنه، ويحيل عقله ومخيلته للتقاعد. وقد مهدت هذه الرؤية ذاتها لما يسميه اليوسف «الضمير الحي». وهو ما استطاعت الرواية الروسية أن تضمنه منذ فجرها الأول على يد بوشكين في «يوجيني أونيجين». فقد حرصت على أن تكون «تعبيرا تلقائيا عن الحنين إلى الحقيقة» وليس الواقع. ويمكن أن نعزو للروس فضيلة قل مثيلها وهي إنتاج الرواية المناخية. ولا أحد يستحق هذا اللقب أكثر من تورغنيف الذي وجد لغة مشتركة بين الطبائع والطبيعة، ولاسيما في عمله «الحب الأول» 1869. وهو نوفيلا مؤثرة عاد إليها فرانسوا مورياك بعد عقود وقدمها باسم «صحراء الحب» 1925. ففي العملين تعبير مأساوي عن الخطيئة في صراع الأجيال، وبالأخص أن الحبكة تدور حول تنافس الأب وابنه على قلب امرأة. ويكرر تولستوي هذا التناص في «آنا كارنينا» أهم أعماله. ويطورها ضمن قناة من الأدوات التي تعيد إنتاج «مدام بوفاري» لفلوبير و»عشيق الليدي شاترلي» للورنس. وربما تتكاتف هذه الأعمال كلها لتصوير انحدار الأخلاق والقيم في عالم يفقد نفسه دون وازع. ويقول اليوسف عن هذا الثلاثي: «إنهم يبشرون بتلوث مادي تمهيدا لتلويث الروح».
وينفرد تولستوي من بينهم في أنه ينظر للرذيلة على أنها نتيجة مباشرة للحرب وليست أحد الاستقلابات المتعددة للاقتصاد والصناعة (منطق فلوبير بشكل أساسي ومن بعده رموز المدرسة الطبيعية مثل زولا وبلزاك). وتجدر الإشارة إلى أن اليوسف لا ترضيه قراءة آخر اثنين لقانون الأخلاق في المدينة. ويؤلمه أنهما اختزلا المدن في النهاية إلى مصحات ودور دعارة. لكنه كان محقا في تتبع مثالب الأساليب الشكلانية التي وضعت عناصر الرواية في حالة تقابل واشتباك وليس تكاملا أو تآزرا، ويحددها بأربعة بنود أساسية (وجدها كلها عند الأمريكي فوكنر) وهي:
ا- اتباع خط مقدر سلفا ومحتم عوضا عن النمو التلقائي.
2- تضخم ذكريات الماضي وتسلطها على الحاضر وإلغاء المستقبل (ربما يقصد التوقعات لأنه لا توجد روايات مستقبلية خارج إطار رواية الخيال العلمي. وحتى هذه تفسر جهود الوقت الراهن الغامضة، كما لدى جول فيرن وإتش. جي. ويلز).
3- الاستغناء عن التسلسل المنطقي للمتحول التاريخي.
4- خنق المضمون وردمه تحت بهلوانيات أسلوبية لا تعبر عن احتياجات الضمير الحي.
وكم كنت أود لو أشار إلى تهافت التفكير الاجتماعي في الروايات الأيديولوجية التي ظهرت في أمريكا لتعارض الطابع الشكلاني للثورة الفنية. وأستثني مثله رواية «عناقيد الغضب» فهي أفضل تعبير عن العقل الإجرامي للرأسمالية العسكرية، أو كما يقول: «هي مثال على التماسك الذي هو شكل من أشكال القوة». وأنا معه في أن زيادة الجرعة العدائية وتغليب الأهواء والغرائز لا يساعد على تصوير شخصيات نظيفة وملهمة، وربما هذا هو سبب هزال أدبنا القومي الذي تغلب عليه 3 صفات.
ا- التعجل.. حتى أن معظم أدبياتنا الرسمية تغرق في بحيرة من الماء الراكد.
2- الحركة دون منطق أو رؤية واضحة. وغالبا لأنها بلا رأي ويجرفها تيار الأحداث.
3- النزوع الخطابي وغير الدرامي مع أن أدبنا منذ العصر الجاهلي وحتى سقوط غرناطة يحمل جرعة مضاعفة من الدراما الذاتية.
وتبقى لتجربة الرواية في أمريكا عدة جيوب غامضة أو سرية. والحقيقة إنها ذات عقل تكهني وجدلي، وبمقدار ما تخللها من عقل إجرامي وتبريري قدمت لنا نماذج اغترابية في حالة ارتباك، أو نماذج ضائعة وتبحث لنفسها عن وطن مستقر داخل وطن هائج. وبهذه الطريقة أضافت لزادنا المعرفي فكرة مهمة عن الخلل الكبير الذي يحفر في حياتنا. وانطلاقا من هذه القناعة يرى اليوسف أن «عصر الرواية انتهى مع وفاة جيمس ولورنس» وأن مقبرة الرواية بدأت مع «ظهور بروست وكافكا». ويرجح أن هذا الثنائي ارتكب جناية بحق الفن الأصيل. ولا بد لي هنا من مداخلة.
أولا لا يتساوى بروست مع كافكا. ثانيا بروست ينتمي لأدب الأغلبية وكافكا لأدب الأقلية. فقد كان تشيكيا ويكتب بلغة ألمانية. وأوافق اليوسف على براعة لورنس. لكن إعجابه به ليس نتيجة افتتان أدبي فقط، بل هو ناجم عن سيرة حياته. فقد كان مريضا ومعلولا مثل أبطال رواياته. ويبدو لي أن يوسف اليوسف لم يكن معجبا إلا بالشخصيات الإشكالية. من توجد في حياتهم غصة، أمثال دستويفسكي (المرتبط بتنظيم سري يعادي الدولة والمريض بالصرع) وهنري جيمس (المتهم بالمثلية). بالإضافة إلى توماس هاردي الذي انقلب على زوجته وعاشر سكرتيرته. هذا غير الشهيد غسان كنفاني الذي خصه بدراسة مطولة حملت عنوانا براقا ومثكلا وهو «رعشة المأساة». ولا شك في أن القدرة على دمج الفجيعة الشخصية مع أحزان ونكبات الخيال الفني هو المدخل الحقيقي لفهم منهج يوسف اليوسف كله. فهو الذي قال: التراجيديا يمكن أن تكشف عن نفسها ضمن شكل له قابلية الإمكان. وهو من قال أيضا: الأدب لحظة لامتناهية تتحقق فيها الصلة بين الروح وأخيلة تتعهد الروح بصنعها…
«مقال في الرواية» دار كنعان، دمشق. 179 ص.
كاتب سوري
“القدس العربي”