من إيران الى أوكرانيا، مروراً بكالينينغراد وترانسنيستريا يترافق الابتزاز النووي والرعب الأوروبي، ويتقاطع معهما حبس الأنفاس في ظل تأرجح الاحتياجات من النفط والغاز بين صفقة مع طهران لم يختمر مصيرها بعد وبين انحسارٍ أكثر لإمكان التفاهم مع روسيا عشيّة الصقيع الذي قد يعصف بالقارة الأوروبية.
في بلاد الشام وجوارها، لفتت التطورات الأخيرة الخطيرة في العراق، الانتباه الأوروبي والأميركي لدقائق فقط وبالذات من بوابة الطاقة وبوابة الخوف من انعكاسها سلباً على المفاوضات النووية بسبب الدور الإيراني العميق خلف الانفجار الأمني وفي مصير العراق. وفي سوريا أيضاً، انشغل البال الأميركي والأوروبي على مصير الصفقة النووية مع إيران بسبب ملاحقة إسرائيلية لافتة لـ”الحرس الثوري” الإيراني وقصفٍ إسرائيلي في العمق السوري لمواقع شملت حلب وريف دمشق لضرب طرق إمدادات الأسلحة الإيرانية الى الميليشيات التابعة لطهران. فأين هي بوصلة هذه التطورات؟
البدء بروسيا وحربها الأوكرانية وسط مؤشراتٍ عن إمكان تدخّل حلف شمال الأطلسي (“ناتو”) لمنع اندلاع كارثة نووية في مفاعل زابوريجيا وكذلك لكبح القوات الروسية في المعركة على خاركوف، والتي يعتبرها “الناتو” مدخلاً خطيراً الى العاصمة كييف.
ليس هناك أي دليل على استعداد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للقبول بأيّ من الحلول الوسط أو الوساطات التي يتم تداولها وراء الكواليس لوقف الحرب الأوكرانية. واضح أن ما يريده بوتين ومقتنع بحتمية تحقيقه هو الانتصار العسكري. نظرياً، هذا ممكن ووارد في نظر الخبراء، إنما عمليّاً وواقعياً، إن فصل الشتاء صعب على القوات الروسية التي ستحتاج الامدادات، وستكون انتصاراتها باهظة التكلفة بكل المعايير. فصل الشتاء، يقول الخبراء، هو لصالح أوكرانيا في الحرب مع روسيا، وروسيا في حاجة لقواتٍ اضافية إذا كانت ستحاول الدخول الى خاركوف. فعدد القوات الروسية في أوكرانيا اليوم 110 آلاف إلى جانب 35 ألفاً من دونباس والمناطق الانفصالية الأخرى وألفين من قوات “فاغنر”. الخسارة البشرية في صفوف القوات الروسية خلال نصف سنة من حرب أوكرانيا تخطت عدد القتلى خلال 10 سنوات من الحرب السوفياتية في أفغانستان والتي فاقت الـ15 ألفاً. خسارة أوكرانيا بلغت 4 أضعاف، حسب تقويم الخبراء.
أوروبا تودّ الخروج من المأزق الروسي لما تسبّب به من تكلفة على اقتصادها، ويهدّدها بأكثر. فالرعب النووي الأوروبي جدّيّ ليس فقط بشأن مفاعل زابوريجيا ذلك لأن هذا أحد المفاعل النووية الأوكرانية التي يبلغ عددها 15، بدرجات متفاوتة من التطوّر.
ما تخشاه أوروبا كذلك هو اضطرار “الناتو” الى التدخّل المباشر في أوكرانيا بما يؤدّي فعلاً الى كارثة نووية. فأوروبا بين مأزقين نوويين، إن تدخّلت أو إن لم تتدخّل مباشرة في أوكرانيا. وهذا يقلقها. يقلقها أيضاً الرأي العام الأوروبي الذي قد ينقسم وينقلب جزء منه على الحكومات الأوروبية، إذا تدخلت أو لم تتدخل.
ما يتعهّد به حلف “الناتو” بشقّيه الأميركي والأوروبي هو ألاّ يسمح لروسيا بتدمير أوكرانيا أو إلغاء وجودها. البيت الأبيض عاد هذا الأسبوع الى تكرار موقفه من أن لا قوات أميركية الى أوكرانيا ولا حتى للمشاركة في إقامة منطقة منزوعة السلاح حوالى زابوريجيا. فالولايات المتحدة على عهدها بألا تخوض الحروب بقواتها وأن تكتفي بالتمويل والتسليح لقوات الآخرين. أما الدول الأوروبية، فهي تسير في الخطى الأميركية لكنّها قد لا تتمكن من استكمال مثل ذلك الطريق لأن الحرب الأوكرانية في صميم القارة الأوروبية.
فلاديمير بوتين مصرّ على أنه سينتصر عسكرياً في الحرب الأوكرانية وفي تلقين الدروس لدول البلطيق وبولندا. زيارته الى كالينينغراد هذا الأسبوع وسط تصاعد التوتر مع الغرب هو دليل على ثقته في أن روسيا لن تنهزم ما دام لديها أدوات نشر الرعب النووي. كالينينغراد التي تقع على شواطئ بحر البلطيق بين بولندا وليتوانيا، الدولتين العضوين في حلف “الناتو”، هي من أضخم المراكز العسكرية الروسية. ثم أن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف وجّه رسالة تحذير الى مولدوفا بشأن ترانسنيستريا وأي ما يهدّد قوة حفظ السلام الروسية في تلك المنطقة الانفصالية في مولدوفا.
أجواء روسيا في سوريا والعراق ولبنان أقل تصعيداً لكنها في عمقها تركز على دعم إيران ونشاطات “الحرس الثوري” في بلاد الشام. تحاول موسكو هذه الأيام أن تتوسط بين إيران وإسرائيل ليتوصلا الى تفاهمات تقوم على الامتناع المتبادل Mutual refrain عن التصعيد عبر الحدود مع إسرائيل. هذه الجهود لا تبدو موفّقة في سوريا، لكنها تبدو لليوم واردة في لبنان حتى إشعار آخر.
ملاحقات إسرائيل لـ”الحرس الثوري” وشحنات الأسلحة في سوريا يفيد بأنها تسعى وراء قطع وصال وتواصل المشروع الإيراني الأصلي للتمدّد الى البحر المتوسط والذي قام على امتداد النظام الإيراني من طهران عبر العراق وسوريا ولبنان وصولاً الى الحدود مع إسرائيل.
إدارة بايدن توقفت عن مراقبة هذا المشروع بل غضّت النظر – كأمر واقع – عن تمدّده بسبب انغماسها الكامل في إنجاح الصفقة النووية مع إيران، بناءً على “مبادرة مالي”، إشارة الى المبعوث الأميركي الى إيران روبرت مالي وتصميمه على إحياء الاتفاقية النووية JCPOA لعام 2018 بكل عزم.
تفيد الإحصاءات بأن اسرائيل قامت بـ22 غارة حتى الآن على الميليشيات الإيرانية في سوريا، علماً أن “الحرس الثوري” أخذ علماً بإيكال روسيا مهامها الى إيران في سوريا، فأطلق العنان لنفسه ولـ”حزب الله”. مجازفة إيران بقتل أميركيين في سوريا مؤخراً لم تأتِ لصالح طهران ولا لصالح إدارة بايدن التي وجدت نفسها مطوّقة بهذا التطوّر. ثم أتت أحداث العراق لتزيد الضغوط على إدارة بايدن نظراً لوضوح تدخل إيران في الشؤون العراقية وتسليحها “الحشد الشعبي” ليكون سلاحه هو الذي يمنع قيام الدولة.
هذا السلوك الإيراني يتحدّى تمنيات الرئيس جو بايدن وفريقه وتمنيات الأوروبيين بأن تكون الصفقة النووية مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية وسيلة لترويض السلوك الإيراني الإقليمي ولكبح عقيدة النظام في طهران التي ترتكز على الهيمنة الإيرانية على العراق وسوريا ولبنان.
لبنان يراقب المشهدين العراقي والسوري بقلق من اللاعبين الأساسيين فيهما، إيران وإسرائيل، لا سيما بعدما دخلت إسرائيل معركة مباشرة ضد “الحرس الثوري” وضد الميليشيات التابعة له، وبالذات “حزب الله” في لبنان. فإذا كانت إسرائيل اتخذت قرار نسف الشحنات العسكرية الإيرانية إلى سوريا وعبرها، هل في ذهنها إعفاء الشحنات والصواريخ الإيرانية الى “حزب الله” في لبنان؟ الأمر الذي يبدو مستغرباً ما لم يكن هناك فعلاً تفاهمات كبرى بين إيران وإسرائيل، منبثقة من الصفقة النووية، تقوم على تحييد المقاومة عبر الحدود اللبنانية – الإسرائيلية؟ أو أن إسرائيل تستعدّ لضربات مشابهة لعملياتها في سوريا لقصف السلاح الإيراني في لبنان والذي يقع تحت إمرة “الحرس الثوري” و”حزب الله”؟
ما لم تتضح معالم ومصير الصفقة النووية مع إيران، لن يكون سهلاً قراءة ماذا في ذهن إسرائيل بالذات نحو لبنان. الجبهة السورية – الإسرائيلية تبدو دائماً تحت السيطرة مهما قامت به إسرائيل من قصف لمواقع وميليشيات إيران. الجبهة اللبنانية – الإسرائيلية، بدورها بقيت لسنوات ومنذ اعتماد القرار 1701، جبهة بلا أسنان، أي جبهة مقاومة بالأقوال وليس بالأفعال. سلاح “حزب الله” تحوّل الى سلاح ميليشيات هدفه تقويض الدولة. لعل لا جديد سيجدّ على الجبهتين اللبنانية والسورية مع إسرائيل بغض النظر إن تمت الصفقة النووية مع إيران أو تعثّرت، ولعل كل التوعّد والوعيد والتخويف جزء من معادلات التفاهم. لا نعلم.
ماذا عن مصير الصفقة النووية في ظل الحديث الأميركي – الإيراني وتعليقات الطرفين على البنود والشروط والخطوط الحمر؟ يُفترض أن نعرف الجواب في غضون أيام، أو هكذا يُقال.
بيت القصيد هو الابتزاز النووي الإيراني. فإما ترضخ أميركا بايدن وأوروبا لإصرار إيران على تقييد حركة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، فتمضي طهران في برنامجها النووي من دون قيود جدّيّة وتحصل على مليارات الدولارات كمكافأة وتصدّر نفطها الى السوق الأوروبية المتعطشة. أو تسقط الصفقة النووية وتزداد أوروبا هلعاً ورعباً وتخسر واردات من النفط والغاز التي كانت ستعوّض لها جزئياً عن مقاطعتها للنفط والغاز الروسيين – وهذا هو عنوان الابتزاز الإيراني لها نووياً ونفطياً.
لربما لن يحدث أي شيء على الإطلاق إذا فشلت الصفقة، ولربما ستقرّر إيران وإسرائيل أن المواجهة العسكرية ليست في مصلحتهما، فتستمر إيران ببرنامجها النووي بلا أموال أميركية وأوروبية تموّله. عندئذ تكتفي إيران بغض النظر الأميركي عن صادراتها النفطية الى الصين التي تتحدّى العقوبات، وتكتفي إدارة بايدن باستمرار الحديث مع طهران بلا عقوبات اضافية وبلا مواجهة عسكرية.
إذا كان هذا الكلام مثيراً للارتباك والحيرة والالتباس، فهو كذلك لأن الوضع هو هكذا الآن. ويروي صديق في واشنطن خدم في إدارات سابقة أنه تحدّث مع صديقين له في إدارة بايدن عما إذا كانت المحادثات النووية ستتوصل الى اتفاق. قال أحدهما له إن الصفقة جاهزة في غضون أيام، وقال الآخر إن لا أمل أبداً بإحياء الاتفاقية النووية. وما قاله هو لافت بدوره لأنه اعتبر أن لا بأس باستمرار الوضع الراهن بلا تتويج أو دفن للمحادثات الأميركية – الإيرانية أو للصفقة النووية.
هذا يفيد ببوصلة ضائعة، لربما، في ضجيج نووي وعدٍّ عكسي الى المجهول.
“النهار العربي”