شكل توقيع الرئيس بوتين الجمعة على مرسوم بضم الأقاليم الأربعة فى شرق أوكرانيا, جمهوريتى لوجانسك ودونيتسك الشعبيتين، وإقليمى زابوريجيا وخيرسون، لروسيا بعد الاستفتاءات التى جرت فى المناطق الأربع مؤخرا لمصلحة الانفصال عن أوكرانيا والانضمام لروسيا, وتصويت البرلمان الروسى, الدوما, عليها, نقطة تحول مهمة سواء على مسار الحرب أو على مسار العلاقات الروسية الأوكرانية والعلاقات الروسية الغربية.
عملية ضم إقليم الدونباس, الذى يضم لوجانسك ودونيتسك, لروسيا كان أمرا متوقعا من قبل بل كان الهدف الأساسى من وراء العملية العسكرية الروسية التى أطلقتها فى أوكرانيا فى فبراير الماضى وكان أحد أهدافها هو تحرير, ما تسميه روسيا, سكان الدونباس من قصف واضطهاد القوميين والنازيين الأوكرانيين, لكن الأمر الجديد هو ضم إقليمى زابوريجيا وخيرسون, حيث اعتبرت روسيا أن الإقليمين جزء من الأراضى التاريخية لروسيا وأنهما امتداد لإقليم الدونباس, لكن الهدف الأساسى من وراء الضم كان ذا أبعاد اقتصادية وإستراتيجية, فالأقاليم الأربعة فى شرق وجنوب أوكرانيا تشكل تواصلا وامتدادا طبيعيا بينها وبين شبه جزيرة القرم مما يعنى ان بحر أزوف أصبح بحيرة روسية داخلية وتستطيع روسيا الوصول إلى المياه الدافئة, كما أن الموارد المائية الضخمة فى خيرسون من نهر الدنيبر يمكن توصيلها لسكان القرم, إضافة إلى أن السيطرة على زابوريجيا تعنى سيطرة روسيا على أهم المفاعلات النووية الأوكرانية، وبالتالى منع أوكرانيا من تطوير أى أسلحة نووية فى المستقبل.
عملية ضم الأقاليم الأربعة تعنى أن 20% من أراضى أوكرانيا أصبح جزءا من روسيا , وأن 15% من السكان, أى سبعة ملايين نسمة أصبحوا مواطنين روسا, إضافة إلى السيطرة على الثروات الطبيعية الضخمة المعدنية والزراعية وعلى الكثير من المصانع الحربية المتوارثة من العهد السوفيتى, وهو ما يمثل خسارة كبيرة لأوكرانيا.
التنازع القانونى ما بين روسيا والغرب يمثل عاملا مهما فى تقرير مسار الصراع, فروسيا تعتبر أن الاستفتاءات جرت بنزاهة وعبرت عن رغبة السكان فى الانفصال عن أوكرانيا والانضمام لروسيا بعد المعاناة والقصف من جانب القوميين الأوكرانيين منذ عام 2014, كما أن غالبية السكان هم من أصول روسية ويتحدثون اللغة الروسية ومنحتهم روسيا بالفعل جنسيتها قبل وأثناء العملية العسكرية, وبالتالى من وجهة نظرها أن هؤلاء السكان وهذه الأراضى عادت لوضعها الطبيعى كجزء من روسيا, وهى جزء من مخطط الرئيس بوتين لإعادة ما يقارب 25 مليون روسى موزعين داخل جمهوريات الاتحاد السوفيتى السابق, إلى المجال الحيوى الروسى, ويستهدف الرئيس بوتين من وراء ذلك تعزيز شعبيته وتبرير حرب أوكرانيا رغم التداعيات السلبية الكبيرة على الشعب والاقتصاد الروسى بسبب العقوبات الغربية. فى المقابل تدفع أوكرانيا والغرب بعدم شرعية عملية الاستفتاء والضم قانونيا وعدم الاعتراف بها, لأنها تنتهك القانون الدولى وميثاق الأمم المتحدة فى عدم ضم أراضى الغير بالقوة وانتهاك سيادة أوكرانيا, كذلك حظر استخدام القوة فى العلاقات الدولية, إضافة إلى أنها جرت فى ظروف غير طبيعية نظرا لاستمرار الحرب فى هذه المناطق، وبالتالى لا يمكن تنظيم أى استفتاءات فيها.
من الناحية الواقعية فإن عملية الضم تعنى تطبيق القانون والدستور الروسى على هذه الأراضى, أى أنها أضحت جزءا من أراضى روسيا الاتحادية ومن ثم فإن أى اعتداء أو عدوان عليها من جانب أوكرانيا أو الغرب سيكون اعتداء على روسيا, ويتيح لها استخدام كل الأدوات للدفاع عنها بما فيها الأسلحة النووية التكتيكية، وذلك وفقا للعقيدة النووية الروسية التى تقضى باستخدام السلاح النووى فى حالة أى تهديد وجودى للدولة الروسية.
الخيارات الأوكرانية والغربية ما بعد الضم تبدو محدودة ومقيدة, فعسكريا تحرير تلك الأراضى من روسيا يعنى احتمالات اندلاع حرب أوسع بين روسيا وأمريكا والغرب الداعم لأوكرانيا. كما أن العقوبات الاقتصادية الجديدة على روسيا ستكون أقل فاعلية, لأن العقوبات السابقة منذ اندلاع العملية العسكرية استنفدت معظم أهداف بنك الاقتصاد الروسى, بل إن مزيدا من العقوبات خاصة فى قطاعى النفط والغاز سيفاقم من الآثار والتداعيات السلبية على الدول الغربية خاصة مع اقتراب فصل الشتاء, إضافة إلى أن شرعية القوة والأمر الواقع أقوى من الشرعية القانونية وهو ما حدث فى عملية ضم شبه جزيرة القرم من قبل.
سيناريوهات ما بعد الضم تتمثل فى أولا: تصعيد أوكرانيا والغرب للحرب وتقديم مزيد من الأسلحة لأوكرانيا واستهداف تلك المناطق فى ظل عدم سيطرة روسيا بالكامل على دونيتسك وزابوريجيا, وبالتالى استمرار الحرب لفترة طويلة, فأمريكا والغرب لن تقبل بانتصار روسيا عسكريا وتغيير قواعد النظام الدولى الحالى أحادى القطبية, وثانيا: الرضوخ للأمر الواقع ولخيار تقسيم أوكرانيا من بين الشرق المنضم لروسيا, وما بين الوسط والغرب الذى سيتجه للانضمام للاتحاد الأوروبى, وهو السيناريو المرجح فى المدى البعيد. وثالثا: الاتجاه نحو المفاوضات بين روسيا وأوكرانيا وأمريكا والناتو, وأن تستخدم روسيا عملية الضم كورقة للحصول على ضمانات أمنية بعدم ضم الناتو لأوكرانيا وعدم نشر أى منظومات أسلحة للناتو فى شرق أوروبا مقابل التخلى عن بعض الأراضى وليس كلها, لكنه سيناريو ضعيف مع تمسك بوتين بتبعية تلك الأقاليم لبلاده للأبد. وفى كل الأحوال الأزمة الأوكرانية ما بعد الضم مستمرة, وموازين القوى على الأرض هى من ستحدد ملامح نهايتها.
“الأهرام اليومي”