بالنظر للعلاقة الوثيقة القائمة بين التكرار والزمن، فإنه يعتبر بحق أحد الأسئلة الأساسية، التي استأثرت وتستأثر باهتمام الشعراء والفلاسفة، باعتبار أن الزمن هو المجال الذي يمارس فيه التكرار حضوره المتنوع والمتعدد، سواء على مستوى الوجود العام، أو على مستوى الوجود الإنساني، مع مراعاة ذاك التعالق الإشكالي، والقوي القائم بينهما.
فالزمن رغم إمعانه في تخفيه، إلا أنه لا يتردد في إشعارنا بحضوره العميق، من خلال آلية التكرار الكبيرة المتحكمة في حركية الكون، محاولا بذلك تقمص حركية الوجود، وقد تجلت في صيغة التتالي الدائري. وبالقدر ذاته، يقترح علينا إمكانية مساءلته ومحاورته، حينما يسفر عن حضوره طي كل ما يصل الكائن بالوجود، وبهويته أيضا، حيث كل شيء قابل للإعلان عن تجليه من جديد.
في هذا المعنى يمكن القول، إن التكرار يتمحور دائما حول شيء/موضوع ما، ماديا كان أو مجردا، حيث لا مجال لتكرار قول، تصور، فعل، غير قابل للتوصيف، ولو في حيز جزئي ورمزي منه، لذلك، سنعتبره بمثابة الأداة العملية لوضع «موضوعه» في حيزه الدلالي. وفي حالة إنجازه لهذه المهمة، فإن جدوى استمراريته تتمثل أساسا في تأكده من ذلك، إما بصيغة احتفائية، أو أخرى إكراهية انسجاما مع طبيعة السياق. ما يدعو للقول إن الند، والغريم الحقيقي للتكرار، هو ذلك المتخفي الغامض الذي لم يتم بعد الإمساك به. فعمليات التكرار تخضع – حتى بالنسبة للموضوع الواحد- إلى استراتيجيات غير قابلة للتحديد، باعتبارها ممارسة حريصة على تنكرها بأقنعتها الخاصة، حيث ليس للتكرار أن يعلن عن ذاته بشكل مكشوف، إلا في حالة اصطدامه بجدار العي المطلق، الذي تنعدم فيه كل وسائط المكر، والادعاء، والتمويه.
إنه يشتغل بقوانين الميلاد والموت، متخذا منها الأرضية المركزية الفاعلة في تنويع مجالات انبلاجه، سواء كانت مقترنة بالظاهر أو بالباطن، بالمادي، الملموس، أو المجرد، حتى لكأن الكون كله يمارس حضوره أو غيابه عبر هذه القوانين. إنه تبعا لذلك، أحد المقومات الأساسية التي يستند إليها الوجود الطبيعي والإنساني في تفعيل هويته، باعتباره أداة للبناء، بقدر ما هو أداة للهدم. فهو ضمن هذا السياق، ضرب من الإلحاح على الشيء كي يكون، أي تحفيز الشيء من أجل مغادرته لمجال التخفي، باتجاه حركية تجليه، وبتعبير آخر، إنه يستحث الشيء، كي ينبجس من زمن العدم، قصد تحقيق اندماجه في زمن الوجود، مجسدا بذلك صورة لامعة لسلطة الإجبار، لكن بموازاة حالة الخضوع القسري لسلطاته المتعددة المرجعيات والمسارات، ثمة أيضا رغبة في قطع دابر هذه السلطة، أو على الأقل في التظاهر بردعها. وهي رغبة، قد يوحي الحسم في ضرورة استئصالها، باحتمال ظهور مسار ما، خارج إطار تحكمها أكثر جاذبية وأكثر دلالة، عكس حالة الاحتفاء بسلطة التكرار، من منطلق تثمين خاصية تحيينها لما كان من قبل منفلتا ومتمنعا على التملك.
إنه يأخذ بذلك شكل تأليب ممنهج على كل ما هو مندرج في حكم المنفلت، إنه حالة عشق وعدوان في آن، أيضا، هو الوضع اللصيق بأهوال الكوارث والمباهج، كما بخطابات الدورات الكونية الكبرى، المقترنة عادة بالذاكرة، بالروح، وبالجسد.
وبموازاة التكرار المشترك الذي يمكن أن يراوح بين التلقائية الآلية والحتمية الاضطرارية، ثمة أيضا التكرار الخاص، المؤطر بالمواصفات ذاتها التي لا تخلو من الهاجس التصويبي، حيث تقتضي الضرورة إعادة توجيه المسار، وإعادة التذكير بطقس، بقانون، وبهوية، في أفق تكريس زمن جسدي، سياسي، أو روحي.
وحرصنا على إزاحة مفهوم «التكرار» المقترن بهذه النماذج من طريق المقاربة، يعود للتشعب الدلالي الذي يتميز به المفهوم ككل، ما قد يسمح لصيغته المبتذلة بالتسرب إلى عمق المشهد، عبر استغلالها الماكر لما يتخلل دلالاته المتعددة والمتنوعة من تشققات.
هكذا هو، جوهري ومركزي هنا، في الوتيرة نفسها التي يكون فيها ثانويا وعرضيا هناك، دون إغفال حضوره بوصفه أداة ربط ورتق، بين تكرار آخر، ينتمي لتبايناتها. ولعل الموقف الطبيعي للشعر، يتمثل في المخاطرة باللعب في محفل هذه التجليات الملتبسة، من خلال العمل على إنتاج ما لا يكون بالضرورة قابلا للتكرار، سواء على المستوى الحرفي أو الدلالي، كما لو أن الأمر يتعلق بمواجهة وحش أسطوري يمتلك في دواخله طاقة مولدة للأضداد الطبيعية والبشرية، التي تتشكل بها هوية الوجود، باعتبارها بنية تبحث عن اكتمالها المؤجل دائما، من خلال ما يتخللها من تعارضات واختلافات، لا تني تكرر ذاتها بصيغها المختلفة.
ولأن الشعر يدرك تماما أن التكرار هو نوع من الديمومة المتقطعة، التي تتيح له إمكانية المراوحة في المكان ذاته، لغاية معينة في السياق نفسه، فإنه/الشعر ينزل بثقله الجمالي كي يخلخل انتظامية هذه التقطعات، مستحدثا بها ديمومة مغايرة ومناقضة لديمومة التكرار. إنها الديمومة الأخرى، وقد اهتدت إلى المكان الذي تجدد فيه غبطة انبثاقها وامتدادها. المكان الذي كان إلى حين، موضوع بحث وتساؤل. وهو ما يلاحظ في البنيات السمفونية، التي يبدو فيها التكرار ضربا من الاحتفاء بما تم إيجاده والعثور عليه، بعد أن كان من قبل في حكم المفقود والمجهول، كي يتحول إلى شرط وجودي للسير قدما نحو محتمل أكثر تقدما، دون أن يكون بالضرورة معلوما.
ذاك هو أصل تكرار النظر إلى الهاوية، الرامي إلى تمثل واستيعاب نداءات أغوارها. معاودة النظر، بوصفه محاولة للقبض على أسرار ما تتمتع به الهاوية ذاتها من سلطان، وتطويق شراستها المرعبة، بتأليبها على ما تتمتع به من رعب. هنا تحديدا، تصبح للتكرار المضاد نكهة البحث عن المختلف، بما هو بحث عن أفق لم تتلبد سماؤه بعد بسحب تكرار العادة. والأمر هنا يتعلق بصيغة مضادة لوشم العلامات والإشارات، ووشم أسماء الأحوال وصفاتها، تفكيك آليات اشتغاله، كي يكشف عما هو قائم خلف ظل الظل. تحقق ذلك، هو ما يدفع بالسؤال خارج ما كان عليه من قبل، والمؤدي حتما، إلى تعطيل لعبة تكرار ثبات والشروع في تجاوزه باتجاه تحولاته، بما هو آخر، محفوف باختلافه وغيريته. وكما هو ملاحظ، فنحن ضربنا صفحا وبشكل مباشر، عن بؤس التكرار الهجين، والوثيق الصلة بمحنة العي، التي تجد فيها النماذج الظلامية نفسها، وأينما ولت ألسنتها، أسيرة مقولات ثابتة ودائمة لا فكاك لها منها. طبعا ليس بفعل جماليتها، أو أهميتها الفكرية والإقناعية، بل فقط نتيجة افتقارها التام إلى أي حس معرفي ونقدي، يمكن أن ينبهها إلى جدوى توسيع أفقها الثقافي، عساها تتخلص من بؤس رؤيتها الببغائية للعالم، مع احترامنا الكبير والكامل لطائرنا الجميل والمعجز السيد الببغاء.
وحرصنا على إزاحة مفهوم «التكرار» المقترن بهذه النماذج من طريق المقاربة، يعود للتشعب الدلالي الذي يتميز به المفهوم ككل، ما قد يسمح لصيغته المبتذلة بالتسرب إلى عمق المشهد، عبر استغلالها الماكر لما يتخلل دلالاته المتعددة والمتنوعة من تشققات. وكما هو معلوم فإن المشهد الثقافي كثيرا ما يبتلى بتمترس إعاقاتها وأعطابها في مختلف مجالاته الفكرية والإبداعية، من خلال اشتغالها بتكرار المقولات والمنظومات الرنانة، بعد انتزاعها من أنساقها ومن مصادرها الأصلية، على سبيل الإيهام بتملك جوهر غالبا ما يقع خارج حدود وعيها.
شاعر وكاتب مغربي
“القدس العربي”