تقول مجلة “إيكونوميست” إن الحديث عن عزل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لم يكن متخيلا أبدا، وبعد المغامرة الفاشلة في أوكرانيا، أصبح من الممكن التفكير بذلك على الأقل، فماذا بعد؟ وهل هناك حياة بعد بوتين؟ وكيف سيخرج من السلطة ومن سيخلفه؟
هذه أسئلة كثيرة تدور في عقول النخبة الروسية وبيروقراطيي الدولة ورجال الأعمال، وهم يشاهدون تقدم القوات الأوكرانية وهروب الموهوبين ورفض الغرب التراجع أمام ابتزاز بوتين في مجال الطاقة.
وقال أحد أعضاء النخبة: “هناك الكثير من الشتيمة والحديث الغاضب في مطاعم موسكو ومطابخها.. اكتشف كل واحد أن بوتين هُزم ويخسر”.
كل هذا لا يعني أن بوتين سيذعن وستتم الإطاحة به أو سيطلق القنابل النووية، كما لا يعني أن الذين يديرون البلد ولديهم أرصدة فيه، قد فقدوا الثقة به. ولكن النظام السياسي يدخل على ما يبدو، أكثر المراحل اضطرابا منذ مرحلة ما بعد الحقبة السوفييتية. وباتت الحكومات الغربية، أيضا قلقة من تحول روسيا إلى بلد خارج على السيطرة. ويقول المحلل السياسس الروسي كيريل روغوف: “لم يحصل أن واجه فلاديمير بوتين وضعا كهذا خلال 23 عاما من حكمه”. ففي الماضي كان قادرا على حرف اللوم على الآخرين والاحتفاظ بصورة الرجل القوي، كما فعل بعد غرق غواصة كيرسك وملاحيها الـ118 عام 2000، أو حصار المدرسة الذي انتهى بمقتل 333 شخصا. أما اليوم “فقد خطط ونفذ عملية فاشلة”.
وكان الغزو صدمة للمؤسسة الروسية التي أقنعت نفسها أن بوتين لن يغامر بحرب واسعة. وهدأت الأعصاب بعد التقدم البطيء وغياب الانهيار الإقتصادي ومفاوضات السلام في بداية الحرب.
وأقنع بعض أعضاء النخبة أنفسهم أن بوتين لن يخسر. واهتز هذا التفكير من خلال دعوة بوتين للتعبئة الجزئية. فقد أظهرت الدعوة أن عمليته العسكرية الخاصة تترنح. وبدعوته لتجنيد المزيد من الجنود، اتضح أنه يجر البلد عميقا في النزاع. وظهر أن محاولاته تحويل الحرب هذه إلى “حرب وطنية عظمى” (كما تطلق روسيا على الحرب العالمية) فشلت بعد الرحيل الجماعي للشباب وهروب المطلوبين للجندية. وكسرت التعبئة الرضا العام الحرب، وأنها لن تقود إلى مشاركة أوسع. ففي موسكو، أغنى مدينة روسية، اضطر عمدتها سيرغي سوبيانين إلى الإعلان في 17 تشرين الأول/ أكتوبر، أن التعبئة قد انتهت، وكان على المناطق التي لا تستطيع الضغط تعويض الأعداد.
وتقول المجلة إنه لا يمكن لبوتين الانتصار في حرب كانت في البداية بدون أهداف، وبعدما خسر الكثير، فلن يتمكن من إنهائها بدون إهانة. وحتى لو انتهى القتال في أوكرانيا، فلن تعود الحياة إلى ما كانت عليه قبل الحرب في ظل رئاسته المتمسكة بالحرب. وفي الوقت نفسه، بدأت الحرب تترك آثارها على اقتصاد البلاد من خلال العقوبات ورحيل أصحاب المواهب والمتعلمين، وسط تراجع في ثقة المستهلك.
وفي حفل يوم 30 أيلول/ سبتمبر، ألقى بوتين خطابا هاجم فيه الغرب، وأعلن عن ضم أربع مناطق أوكرانية لا يسيطر عليها حقيقة، مما أدى لنزع الهالة عنه كرئيس قوي داخل روسيا. وكما قال تاتانيا ستانوفايا، المستشارة السياسية: “حتى أيلول/ سبتمبر، اتخذت النخبة الروسية القرار البراغماتي لدعم بوتين، ولكن الأمور تقدمت إلى درجة بات عليهم الاختيار بين سيناريوهات خاسرة عدة”. وربما قادت الهزيمة العسكرية لانهيار النظام، ومخاطر لمن دعموه. كما أن نزعة بوتين المحاربة تثير الأسئلة حول استمرار النخبة في دعم بوتين حتى النهاية المرة، وفي ظل التهديدات المستمرة باستخدام الأسلحة النووية، حسبما قالت ستانوفايا، حيث تحول بوتين من مصدر للاستقرار إلى تهديد.
ويقول المحلل السياسي عباس غالياموف، والذي قضى وقتا في الكرملين، إن النخبة التي طالما وثقت ببوتين وقدرته على حماية النظام وحمايتهم، سيجدون أنفسهم في الأسابيع والأشهر المقبلة أمام خيار أن حماية النظام وحتى حماية أرواحهم تقع على عاتقهم، وهو ما يزيد من البحث المكثف عن خليفة داخل النظام. وذكر غالياموف، ديمتري باتروشيف، نجل نيقولاي باتروشيف، الذي ترأس المجلس القومي والمنظر الأيديولوجي للنظام. وعمل ديمتري الابن وزيرا في السابق، مع أنه جزء من النظام، إلا أن شبابه يجعله بداية جديدة. وهناك إمكانية لترشيح سيرغي كيرينكو، نائب رئيس طاقم الكرملين، وكذا عمدة موسكو سوبيانين، وأيضا ميخائيل ميشتوسين، رئيس الوزراء الذي يمكنه التحالف مع رجال الأمن ولعب دور المفاوض المعتدل مع الغرب.
لكن المعارض الروسي السجين، ألكيسي نافالني، ناقش في مقال نشرته صحيفة “واشنطن بوست” قبل فترة، أن التعويل على استبدال بوتين بعنصر من النخبة الحاكمة وأنه قادر على تغيير الرؤية عن الحرب خاصة ميراث الاتحاد السوفييتي السابق، تفكير ساذج. فالطريقة الوحيدة لوقف المغامرات القومية الإمبريالية، هي تحويل روسيا نفسها إلى قوة لامركزية وجمهورية برلمانية.
وفي مناشدة للنخبة الروسية، قال نافالني إن الديمقراطية البرلمانية مرغوبة ومطلوبة من الذين يعملون مع بوتين “فستعطيهم فرصة للحفاظ على التأثير والقتال من أجل السلطة والتأكد من عدم خسارتهم أمام قوة عدوانية”. وبدأت هذه “القوة العدوانية” بالظهور في الرأي العام، وتضم يفغيني بريغوجين، المجرم السابق، و”طاهي بوتين” الذي يقود شركة فاغنر للمرتزقة، ورمضان قديروف، الزعيم الشيشاني الذي يملك جيشه الخاص.
“القدس العربي”