في نهاية عهد ميشال عون، تصح استعادة العونية كظاهرة سياسية أنتجها “لاوعي جماعي” لشريحة لا يستهان بها من المسيحيين اللبنانيين.
وهي إذ تصدعت وتشظت مع الأيام، لا سيما في زمنها الباسيلي (نسبة لوريث ميشال عون وصهره جبران باسيل)، فإنها استمرت مصدر انفعالات وسمت حتى المنشقين عنها، وكذلك أيضاً وسمت بعضاً ممن يعتقدون أنهم خصومها.
فالانشقاق عن العونية كان فعلاً سياسياً، في وقت هي (أي العونية) في جوهرها صدع نفسي، وحين يبتعد العوني عن “التيار” يواصل الصدع اتساعه، ولهذا فإن كثيرين يعتقدون أنهم ليسوا عونيين، وهم في الحقيقة كذلك.
الرئيس اللبناني سيغادر القصر بعد أيام معدودة، والصدع استيقظ على نحو لم يتوقعه كثيرون منا.
فزمن الكوارث التي ألمت بالبلاد طوال السنوات الست من حكم ميشال عون، يخفت أمام الحقيقة الشعورية التي ترافق الحدث.
عونيون غير باسيليين، وآخرون ممن انشقوا قبل صعود الصهر ووراثته التيار، أصابهم غم وشعروا بأنهم حيال لحظة حزينة، فهم ممن سقطت “إنجازات العهد” على رؤوسهم وحرمتهم من ودائعهم، وهوت بهم إلى فقر يخجلون بأنه حالهم هذه الأيام، إلا أن مغادرة عون القصر هي لحظة عاطفية أقوى مما راكموه من ضغينة على الباسيلية.
العونية حالة نفسية جماعية تخترق التيار العوني وتتصل بـ”لاوعي” جماعة أهلية أوسع من التيار، فكل مسيحي لبناني يقول لك أنه “لا يحب السياسة” هو عوني من دون أن يدرك.
والظاهرة غير سياسية على الإطلاق، ولهذا هي في حالة اصطدام متواصل مع السياسة، ومن هنا تبدو السياسة بالنسبة لقيادة التيار فعلا غير منطقي.
المعارك التي خيضت منذ العونية الأولى، والتي هدفت إلى إيصال عون إلى قصر بعبدا، وسالت على جوانبها دماء كثيرة، وتوجت برهن الجماعة المسيحية لقرار حزب الله، انتهت بالعبارة الشهيرة: “ما خلونا”!
وبالتالي كيف يمكن صرف الـ”ما خلونا” في مشهد سياسي، في وقت تردنا العبارة إلى نمط من الأشكال التعبيرية الطفلية، والتي تصدر عن مشتكٍ من مضطهد جائر.
لا مكان في العونية لمحاسبة جبران باسيل على فشله في الكهرباء، أو على مظاهر رخائه المستجد خلال عهد والد زوجته، فالمحاسبة فعل سياسي، وأهل التيار غارقون في تلك المساحة الشعورية التي أصابتهم جراء ما أصيب به المسيحيون على مدى تجربتهم المريرة في لبنان.
فهم لا يحبون جبران، وقد لا ينتخبونه، لكن ابتعادهم عنه أشبه بتخثر يمكن تسييله في لحظة مثل لحظة مغادرة الرئيس القصر وعودته إلى منزله في الرابية الذي أهداه إياه متمولون معظمهم غير عونيين!
لعل مهزلة الأوسمة التي منحها الرئيس في آخر أسبوع من عهده، تصلح أيضاً لتفسير العونية بوصفها الهشاشة المتواصلة التي لا يحد منها فشل أو فساد أو هزيمة.
فالرئيس جمع من حوله في هذا الأسبوع من لم يعهده اللبنانيون في أنهم حملة أوسمة، لتبتذل الأوسمة على نحو غير مسبوق، وتمسي أشبه بهدية أهلية تمنح للجيران في لحظة وداع، ولتكون أوسمة بائسة بؤس اللبنانيين في زمن الكوليرا الذي يعيشونه.
أي شيء يمكن أن يتوقعه المرء من آلة حكم غير سياسية، على رغم انغماسها في أهلية عصبوية متزمتة.
ولبنان في أيام بؤسه وانهياره هذه، وفي ظل الاستعصاء الرهيب الذي يعيشه، وعاء لحالات موازية للعونية، تنتشي فيه الجماعات التي على شفير الجوع والهرب، بما تتوهم أنه قوتها، فيستيقظ “إنفلونسر” يدعى محمد كوثراني ليوزع المهام على الطوائف على نحو ما أوحى إليه به حزب الله.
وكذلك، يغادر “النائب التغييري” وضاح الصادق كتلته متوجهاً إلى دار الفتوى، بينما يعلمنا سمير جعجع أن من لا ينتخب، ميشال معوض، رئيساً للجمهورية، سوف يكون عميلاً لإيران.
ومساء يوم الأحد يصدر حاكم مصرف لبنان تعميماً يفضي إلى خفض قيمة الدولار أكثر من خمسة آلاف ليرة، فيستفيد من ذلك صرافون وينهار صرافون آخرون، في حين تواصل أسعار السلع صعودها.
وسط هذا المشهد سيودع العونيون رئيسهم وسيرافقونه من بعبدا إلى الرابية، وسنذهل من فعلتهم، لكن ذلك لن يدوم كثيراً، فالعونيون أيتام مثلنا، ولا ناقة لهم ولا جمل بما تأتي عليهم به مشاعرهم، أما العقول فهذا ليس مجال اشتغالها.
وبالعودة إلى الأوسمة وتوزيعها في الهزيع الأخير من العهد، فإنها تكشف حاجة اللاوعي الجماعي التي لطالما راودته فكرة الرئاسة بوصفها تعويضاً عاطفياً عن الخسارة، ولكن ليس بوصفها سلطة وتجربة ينبغي خوضهما وتقديمهما كنموذج يقدمه العونيون كانعكاس لأفكارهم.
وهذا ما يفسر سهولة تخلي ذلك اللاوعي الجماعي للعونيين عن السلطة لحزب الله، واحتفاظهم بالرئاسة بوصفها قدرة على منح الأوسمة.
“الحرة”