منذ بداية الهجوم الروسي الواسع على أوكرانيا نجحت تركيا في الالتزام بحياد معقد مكنها من لعب دور الوسيط الأقوى بين البلدين وصولاً لتحقيق اتفاق الحبوب الذي قالت الأمم المتحدة إنه أنقذ العالم من خطر مجاعة كانت تحدق به، في حين لا تزال الدبلوماسية التركية تسعى للتوصل إلى اتفاقيات أوسع أهمها ما يتعلق بتجنيب العالم خطر وقوع كارثة نووية في محطة زابوريجيا النووية التي تدور في محيطها الاشتباكات وسط مساع أوسع للتوصل إلى وقف شامل لإطلاق النار يمهد للبحث في إمكانية الوصول إلى اتفاق سلام ينهي الحرب بين البلدين.
إلا أن هذه الجهود التركية تلقت انتكاسة مفاجئة وكبيرة جداً مع إعلان روسيا تجميد العمل باتفاق الحبوب بسبب الهجوم الأوكراني الواسع الذي تعرض له أسطول البحر الأسود الروسي في شبه جزيرة القرم وهو الهجوم الذي تقول روسيا إن كييف استغلت اتفاق الحبوب لتنفيذه في اتهام خطير يقود لاتهامات أوسع قد تشمل تركيا وتهز مكانة حيادها المعقد الذي نجحت أنقرة في ترسيخه طوال الأشهر الماضية وحققت من خلاله مكاسب دبلوماسية مهمة على كافة الأصعدة داخلياً وإقليمياً ودولياً.
وعلى الرغم من أن روسيا لم توجه بعد أي اتهامات لتركيا تتعلق بالمشاركة أو التساهل أو تقديم المساعدة لأوكرانيا في تنفيذ الهجوم، إلا أن رد الفعل الروسي فتح الباب واسعاً أمام تكهنات حول وجود غضب روسي رسمي اتجاه تركيا وربما شكوك قد تزعزع الثقة القائمة بين البلدين وهو ما يفتح الباب أمام خلافات تتصدر المشهد بدلاً من التوافق والدبلوماسية والاتفاقيات الجديدة التي كانت تأمل أنقرة أن تتصدر المشهد في المرحلة المقبلة.
وفي الساعات الأولى، تحدثت مصادر روسية عن أن الهجوم ضد سفن حربية روسية كبرى والذي وصف بأنه “أضخم هجوم أوكراني على أسطول البحر الأسود” جرى من خلال “طائرات مسيرة” وهو الإعلان الذي فتح الباب واسعاً أمام التكهنات عما إن كان الهجوم نفذ بواسطة طائرات مسيرة من طراز بيرقدار والتي تعتبر أبرز مسيرات يمتلكها الجيش الأوكراني الذي استخدمها بالفعل سابقاً في تنفيذ ضربات جوية ضد سفن حربية روسية بالبحر الأسود وضد المقر الرئيسي لأسطول البحر الأسود في جزيرة القرم وهو ما زاد الغضب الروسي من تزويد أنقرة لكييف بهذا النوع من المسيرات المتقدمة.
لكن وفي وقت لاحق تحدثت مصادر عسكرية روسية عن أن الهجوم جرى تنفيذه بمسيرات انتحارية ومسيرات بحرية، وأوضحت وزارة الدفاع الروسية أنها انتشلت وحللت حطام مسيرات استخدمت في الهجوم وهو ما قادها لاكتشاف أن الطائرات المسيرة كانت مزودة بوحدات ملاحة كندية، وجددت اتهامات بأن الهجوم جرى تنفيذه بتوجيه من متخصصين بريطانيين وهو ما نفته لندن بشكل مطلق.
اتهام بريطانيا بالمساعدة في التخطيط للهجوم وكندا بتزويد المسيرات بأنظمة ملاحة وعلى الرغم من أنه أبعد الاتهامات المباشرة عن تركيا فيما يتعلق باستخدام مسيرات بيرقدار، إلا أنه لم ينه مخاطر الهجوم على العلاقات الروسية التركية لا سيما وأن موسكو وجهت اتهامات جديدة لكييف بتنفيذ الهجوم من المنطقة الآمنة والتي تشارك تركيا بشكل مباشر في تأمينها وفحص السفن التي تمر عبرها وهو ما قد يقود لاتهامات لتركيا بالتواطؤ مع الهجوم الأوكراني.
وعلى الرغم من عدم وجود اتهامات روسية مباشرة لتركيا، إلا أن وسائل إعلام ومحللين وكتابا روس وجهوا انتقادات للموقف التركي وألمحوا إلى وجود شبهات بـ”تواطؤ” تركي مع بعض الهجمات الأوكرانية، إلى جانب الرد الروسي السريع بإعلان تجميد العمل باتفاق الحبوب فور وقوع الهجوم الأوكراني الأخير.
والسبت، قالت وزارة الدفاع الروسية على تلغرام “بالنظر الى العمل الإرهابي الذي نفذه نظام كييف بمشاركة خبراء بريطانيين ضد سفن في أسطول البحر الأسود وسفن مدنية تشارك في (ضمان) أمن ممرات (نقل) الحبوب، تعلق روسيا مشاركتها في تطبيق الاتفاق حول صادرات المنتجات الزراعية من المرافئ الأوكرانية”.
والأحد، قالت وزارة الدفاع الروسية إنها عثرت على حطام المسيّرات التي هاجمت أسطولها في سيفاستوبول، مشيرة إلى أنها استخدمت “منطقة آمنة” لتصدير الحبوب وطرحت احتمال أن تكون أُطلقت من “سفينة مدنية”، وأضافت الوزارة: “مسيّرات بحرية كانت تتحرّك في المنطقة الآمنة التابعة لـ+ممر (تصدير) الحبوب+”، مشيرة إلى إمكان أن تكون إحدى المسيّرات أطلقت من “على متن إحدى السفن المدنية التي تستأجرها كييف أو أسيادها في الغرب لتصدير المنتجات الزراعية من موانئ أوكرانيا”.
ويجري تفتيش كافة السفن المشاركة في نقل الأسمدة والحبوب من موانئ أوكرانيا إلى العالم قبل وبعد خروجها من البحر الأسود في مركز المراقبة بإسطنبول الذي تشرف عليه بشكل مباشر وزارة الدفاع التركية ويشارك فيه ممثلون عن روسيا وأوكرانيا والأمم المتحدة، كما تشارك تركيا في تأمين ممر عبور السفن في البحر الأسود.
وبينما لم تصدر تصريحات رسمية تركية حول القرار الروسي بتعليق اتفاق الحبوب، نقلت وكالة الأنباء الفرنسية عن مصدر تركي رسمي قوله إن أنقرة لم تبلغ بالقرار الروسي “رسمياً”، كما نقل عن دبلوماسي تركي قوله إن بلاده بدأت اتصالات مع روسيا والأمم المتحدة. من جهته أعلن المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف عن عدم وجود خطط لإجراء محادثة بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره التركي رجب طيب أردوغان حول تعليق روسيا لمشاركتها في صفقة الحبوب.
كما أعلنت ممثلة مركز التنسيق المشترك لتنفيذ “صفقة الحبوب”، أن الأطراف المشاركة في الاتفاق لم تتمكن من التوصل إلى اتفاق على حركة السفن في البحر الأسود، وقالت إينسين بالا: “لم يتوصل ممثلو الأطراف في مركز التنسيق المشترك في إسطنبول إلى اتفاق بشأن حركة السفن في إطار مبادرة حبوب البحر الأسود ليوم الأحد 30 أكتوبر”، مضيفةً: “يقوم المركز بتحليل الأحداث الأخيرة، وتقييم تأثيرها على أنشطة المركز ويناقش الخطوات التالية”. وبحسب قولها، مرّت يوم السبت، 9 سفن (5 من أوكرانيا و4 وصلت إلى أوكرانيا) بأمان، من الممر الإنساني البحري الذي أنشأه مركز التنسيق المشترك”، وأضافت: “هناك أكثر من 10 سفن، قادمة ومغادرة، تنتظر دخول الممر”.
ومع التوقف الفعلي لممر الحبوب، لا يبدو بالأفق أي إمكانية لاستئناف العمل به قريباً، وهو ما يعني تعنتا روسيا جديدا في أي مسار دبلوماسي مع أوكرانيا حيث من المتوقع أن تمتد الآثار السلبية لمباحثات إقامة منطقة آمنة في محيط زابوريجيا النووية، ومساعي التوصل لوقف إطلاق نار، لكن الأخطر الخشية من أن تشمل الاتهامات الروسية بالتواطؤ في هجوم القرم تركيا وهو ما قد يحمل في طياته مخاطر كبيرة جداً على مسار الحرب والجهود الدبلوماسية والعلاقات التركية الروسية في أكثر من ساحة إقليمية وهو سيناريو لا يبدو أن أيا من موسكو أو أنقرة ترغب في الانزلاق إليه على الإطلاق.
“القدس العربي”