غالباً ما تعصف التحوّلات بمدن وأحياء وبلدات، فتبدّل من أحوالها وتغيّر عمرانها وتزيل محلّات أو عمارات أو مواضع كانت لفترات طويلة علامات فارقة في يومياتنا ومشاريعنا وفي تنقّلاتنا.
وغالباً ما تقترن التحوّلات هذه بخسارات أو بفقدان نعدّه شخصياً إذ يصيب مواضع كان لنا فيها ذكرى غالية أو كان لها فينا أثر، ويخلّف التفكير بها كل فترة ابتسامة أو حزناً أو استدعاءً لوجهٍ أو لصوتٍ أو لمذاقٍ نربطه بها وبمطرٍ أو حرّ أو تعبٍ أو توثّب أو ضجيج أو همسٍ رافق جلوساً أو لقاءً فيها.
ويزداد أمر الخسارات أو الفقدان حدّةً حين نغادر المدن والبلدات حيث عشنا لسنوات أو عقود، تاركين أمكنتها وناسها على حالٍ نخالها لن تتغيّر، أو بالأحرى نحاول إقناع أنفسنا ببطء مرور الوقت عليها خلال غيابنا، بما سيُتيح لنا فرصة العودة للعثور على ما تركنا شبيهاً بتمثّله في ذاكرتنا وفي المُشتهى من توقّعاتنا.
على أن التحوّلات وما تُحدثه ليست خسارات شخصية أو حميمة فقط. فهي خسارات معمّمة أيضاً، أو هي، بعيداً عن قياس الخسارة، جانب من جوانب سيَر المدن والبلدات وناسها وقراءة لتطور الحياة فيها وتعرّجاتها وأحوال الاستهلاك وأولوياته. وهي أيضاً مؤشّر على المعيشة والعمران والقدرات الشرائية ومعايير الجماليات المتحرّكة وأشكال التجديد وانتقال الملكيّة، وخصائص السياحة ومتطلّبات أمزجة الأجيال والسكّان وعابري السبيل الجدد. وهي فوق كلّ ذلك صيرورة لا مفرّ من التعامل مع مآلاتها ونتائجها المباشرة وغير المباشرة.
بيروت الخسارات
ولا شكّ أن الكثير من المدن والبلدات يشهد التحوّلات بسرعة أو بتسارعٍ يُعرّضنا في مدى زمني محدود لأكثر من مفاجأة في المكان نفسه وفي أدواره وتفاصيله المنتقلة من طور الى آخر ثم الى غيره. ذلك أن لا الديموغرافيا ولا الاقتصاد ولا الاحتياجات تصبر على قديمٍ، ولا العمل والإنتاج والأذواق والعلاقة بالحيّز العام تعصى على تبدّل، وكل هذا يفرض نفسه على المرافق والخدمات والمحال والبيوت والمنشآت والشوارع والساحات على نحو يبدو فيه الوقت أسرع من قدرتنا على التكيّف مع مجرياته أو على التقدّم الحذِر والعاديّ بالعمر.
وتبدو بيروت منذ فترة مكاناً يتكثّف فيه فعل هذه التحوّلات جميعها. فالمدينة عرفت منذ نهاية حروبها والحروب عليها أكثر من تحوّل جذري محا أجزاء منها أو غيّرها أو أبعدها عن قاطنيها وزائريها السابقين. من وسط المدينة، الى شوارع الأشرفية ورأس بيروت، مروراً بشريط المدينة البحري وبمعظم أحيائها وجاداتها الداخلية، تغيّرت الألوان والخصائص واكتظّت المساحات وضاقت الفضاءات وازداد الفرز الاجتماعي وتداعياته. ولم يبطّئ من وتيرة التغيّرات وارتفاع الباطون وخصخصة المرافق سوى عمق الأزمات السياسية والاقتصادية المتعاقبة، التي طوت كل فترة حقبة انفراجات وحيوية فاضت أحياناً والتهمت أماكن ومعالمَ انطفأ مع زوالها بعض ما صنع علاقتنا ببيروت نفسها.
وقد يكون انطفاء المودكا والويمبي في شارع الحمراء اول الصدمات الشخصية (والجماعية) أو بالأحرى الصدمة التي لم يعد من بعدها لتحوّل أو «اختفاء» أن يصدمَ أو يُحدث قسوة الفقدان إياه. ذلك أنهما كانا من أبرز مقاهي العاصمة قبل الحرب، وظلّا كذلك خلالها، واستمرّا ما يزيد على العقد من الزمن من بعدها بديكوريهما ورائحة القهوة فوق المقاعد والطاولات القديمة التي تعاقبت عليها أجيال من «الزبائن»، تُضرَب فيهما المواعيد على أنواعها أو يتلاقى فيهما الصحب على عجل، أو يتوافد إليهما الروّاد من دون تنسيق ليقين مسبق باحتمالات اللقاء.
وأثّر اندثار المقهيين على منطقة الحمراء بأكملها، وعلى أسباب توجّه كثرٍ منّا إليها، وجعلنا نستعيد تدريجياً ذكريات الأماكن المفقودة التي ضاعت نتيجة الحرب والإعمار الذي تلاها، والتي عدّينها وقتها خسائر إلزامية أو جانبية أو استوعبناها كما استوعبنا، أو خُيِّل لنا، كمّ الأحداث والأعاصير التي ضربت حياتنا. وصار من بعد المقهيَين إحصاء الخسارات أو التنبّه لها جانباً من جوانب حياتنا البيروتية، وكاد يصبح مع الوقت روتيناً الى أن أعاد الانهيار المالي والاقتصادي الأخير، المصاحب لانتصار الثورة المضادة على محاولة التغيير العام 2019، تذكيرنا بألم كلّ فقدان وبالعجز أمامه.
البحث عن زمن ضائع
هكذا، أصبحت الزيارات الدورية للعديد من «المُهاجرين» الى بيروت أو الى هذه البلدة أو تلك في مناطق البلد المختلفة، أشبه بزياراتٍ للبحث عن أمكنة ضائعة، أو عن زمن ضائع، والتهيّؤ المُهيب للوقوف أمام الفقدان. نزور موقعاً هنا ومحلّة هناك، بناء على خبر عن حدث أو تفقّداً قلقاً لمُجريات محتملة، أو حتى حداداً على ذكرى وبحثاً عن ناجين. كأنّ هؤلاء يتحوّلون، بعد أفول مقهى أو مبنى أو مطعم أو مكتبة أو صحيفة أو دار نشر أو مدرسة ارتبطت وجوههم بها، الى شهود نخشى عليهم من الاختفاء. نخشى من أن تختفي معهم آخر روابطنا وملامحنا وما بقيَ لنا من حياة سابقة برفقتهم.
وهكذا أيضاً، صارت لنا في كل زيارة رهبة وتوجّس وخوف من عدم ملاقاة ما تركنا قبل مدّة معلّقاً في زمنه أو في حقبة تمنّينا أن يبقى ما يذكّرنا بها. نستبق الوصول الى الموضع المعني باستكشاف محيطه وبتصوير السبيل المفضي إليه كي نؤرشف على هواتف نقّالة ما لم يكن حفظه مُتاحاً في صورة رقمية أو في إثبات شخصي على زمن مشترك ضائع أو مقبل على الضياع. نصوّر ونوثّق كأننا في مهمّة إنقاذية تبحث عن تأكيد حصول أمر أو عبور في زمان ومكان محدّدين قبل فوات الأوان، قبل إفلاس أو جرفٍ أو تهتّك أو تبدّل أمزجة وتكيّف مع قسريّ عاداتٍ جديدة.
هل نبالغ في كلّ هذا؟
أوليست التحوّلات حال الدنيا وناسها، والفقدان شرط من شروط الاستمرار وصيغة من صيَغ العلاقة بالحياة وأزمنتها ومصانع ذكرياتها؟
بلا شك، لكن الفارق في بعض الحالات هو الإحساس بأنّ المدن التي أطاح بحلوِ العيش فيها انهيارٌ أو انفجار أو تراكم خيبات ومظالم أو فشل أحلامٍ واغتيالات، تصبح مدناً أكثر هشاشة في علاقتها مع الموت، ويصبح ناسها كأنهم مشاريع غرقى، نحاول في كلّ تفقّد لهم تأجيل وداع واستزادة ضحكات ولجم الوقت في اندفاعته الهوجاء نحو المجهول، نحو القسوة التي نهابها والتي ستصبح بدورها يوماً ذكرى أو زمناً عابراً…
*كاتب وأكاديمي لبناني
“القدس العربي”