انسحب الجيش الروسي من منطقة خيرسون، وهو الانسحاب الذي تحول إلى مصدر للتحاليل المتعارضة بين من يؤكد على أكبر نكسة عسكرية لموسكو في هذه الحرب، التي أعلنتها يوم 24 فبراير/شباط الماضي ضد أوكرانيا، ومن يذهب إلى أنها خطوة تهدف إلى تمهيد التفاوض لإنهاء الحرب. وبين هذه الأطروحة وتلك، تصر القيادة العسكرية الأمريكية على ضرورة فتح كييف مباحثات غير معلنة مع موسكو.
انسحب الجيش الروسي من خيرسون خلال الأسبوع الماضي، ويشكل هذا فرصة لمختلف التحليلات، لاسيما التي تتحدث عن نكسة عسكرية تعرضت لها موسكو منذ بدء الحرب. ويبقى المثير أن هذه التحليلات صادرة عن سياسيين وعن مراكز للتفكير الاستراتيجي، تحمل مسبقا موقفا عدائيا ضد روسيا، ليس لأن موسكو خرقت الشرعية الدولة بإعلانها للحرب، وهي بالفعل قد خرقت ميثاق الأمم المتحدة، بل لانتمائها إلى تيار أنكلوسكسوني يعتبر روسيا العدو الأول في الوقت الراهن بدل الصين.
وتبرر موسكو الانسحاب من خيرسون بإعادة تموضع قواتها في أوكرانيا، لاسيما في ظل صعوبات الدعم اللوجيستي مع اقتراب فصل الشتاء، الذي يكون قاسيا في المنطقة. ويدرك الروس جيدا ما معنى فصل الشتاء، وكيف أنهك الجنرال الفرنسي نابليون خلال بداية القرن التاسع عشر عندما هاجم روسيا، ثم كيف فشل النازي هتلر في هزيمة الاتحاد السوفييتي إبان الحرب العالمية الثانية. وميدانيا، لا يعتبر هذا الانسحاب الأول، فقد انسحب الجيش الروسي من معظم الأراضي الأوكرانية خلال مارس/آذار وأبريل/نيسان الماضيين، وهو الذي كان على بعد كيلومترات معدودة من العاصمة كييف. ويخضع الانسحاب الروسي لعاملين أساسيين، الأول سياسي والثاني عسكري محض. وعلاقة بالعامل السياسي، رغم خرقها لميثاق الأمم المتحدة، ترغب روسيا في احترام تعهداتها، وهي البقاء فقط في الأراضي الأوكرانية التي صادق البرلمان الروسي، قبل بدء الحرب على الدفاع عنها ثم ضمها، وهي إقليم دونباس في جمهوريتي، دونيتسك ولوغانتسك. وهذا يعني البقاء ما وراء نهر دنيبرو وجعله حدا فاصلا وحدودا دولية بين روسيا وأوكرانيا. وفيما يخص العامل العسكري، يوجد الجيش الروسي أمام معادلة صعبة وهي: تبني الاستراتيجية الأولى في الحرب، وبالتالي توظيف إمكانيات كبيرة، سمحت بمحاصرة جل المدن الأوكرانية بما فيها العاصمة كييف. وهذا يعني الدخول في حرب استنزاف سترهق هذا الجيش، علما أنه يتخوف من تطور الحرب نحو حرب شاملة تدخلها دول أخرى؛ أو يغير من تكتيكه بما في ذلك الانسحاب من المناطق غير الاستراتيجية، للحفاظ على قواته وتطبيق ما صدر عن البرلمان الروسي، أي ضم إقليم دونباس، من دون تجاوز نهر دنيبرو.
الجيش الروسي يعمل على تحصين المناطق التي احتلها، وبالتالي فهو في حالة دفاع عما كسبه لا في حالة هجوم للتقدم نحو أراض جديدة
بالموازاة مع هذه التطورات، يستمر الغرب في التشديد على أن كل مبادرة سلام لإنهاء الحرب هي في يد روسيا وليس أوكرانيا. في هذا الصدد، كانت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين واضحة في حوارها مع قناة «الجزيرة» وقنوات سابقة بالإشارة إلى هذه النقطة. غير أن التطور الحقيقي هو ما يصدر عن المؤسسات الأمريكية، سواء البيت الأبيض أو البنتاغون. ونقلت جريدة «الواشنطن بوست» خلال الأسبوع الماضي كيف يضغط البيت الأبيض على الرئيس فلولوديمير زيلينسكي لكي يفتح قنوات حوار مع موسكو، وليس بالضرورة مفاوضات علنية.
وفي منعطف حقيقي في الموقف الأمريكي، هو ما سربته جريدة «نيويورك تايمز» من تصريحات قائد القوات الأمريكية الجنرال مايك ميلي، خلال اجتماع مغلق لتقييم الحرب الأوكرانية جرى منذ أيام قليلة، حيث دعا إلى ضرورة الرهان على الحلول الدبلوماسية، بعدما حصلت كييف على كل الدعم العسكري. وتلتقي تصريحات قائد القوات الأمريكية مع مواقف كبار الجنرالات، سواء في الخدمة أو في الاحتياط والتقاعد الذين يصرون على الحل الدبلوماسي بدل العسكري. ويعد قادة الجيش أصحاب القرار في الملفات ذات الطابع العسكري. وعلى رأس هذه الأسباب، وعي الغرب، ولاسيما البيت الأبيض باستحالة تراجع موسكو عن مخططاتها في هذه الحرب، ولاسيما التخلي عن ضم شرق البلاد، إقليم دونباس بشكل نهائي الى روسيا، بل قد تتطور الأمور إلى الأسوأ بضم مناطق أخرى مستقبلا إذا استمرت الحرب. وفي سبب آخر، تأكد للغرب استحالة هزم الجيش الروسي رغم بعض النكسات التي تعرض لها، ذلك أن الجيش الروسي يعمل على تحصين المناطق التي احتلها لجعلها جزءاً من البلاد، وبالتالي فهو في حالة دفاع عما كسبه وليس في حالة هجوم للتقدم نحو أراض جديدة، وهذا ما يفسر أن مبادرة الهجوم في يد الجيش الأوكراني حاليا. إذ رغم الانسحاب الروسي، فبالكاد استعادت كييف 8% من الأراضي التي ضمتها روسيا منذ اندلاع الحرب. في الوقت ذاته، تعتقد واشنطن أن استمرار الحرب قد يعني تدمير أوكرانيا بشكل كبير، خاصة أن روسيا تنهج حرب تدمير البنيات التحتية من طرق ومحطات الطاقة والمصانع، وسيتحمل الغرب مستقبلا إعمار البلاد، من دون استبعاد عودة نظام موال لروسيا مستقبلا، لأن الأوكرانيين بدأوا يعتقدون خذلان الغرب لهم. ذلك أن الحروب تسفر في بعض الأحيان عن الميل الى الطرف الآخر، كما حدث مع اليابان بعد الحرب العالمية الثانية، حيث أصبحت في السفينة الأمريكية، ثم ارتباط العراق نسبيا بالولايات المتحدة بعد الحرب. وفي سبب آخر يعد رئيسيا هو الضعف الذي يسيطر على الدول الغربية التي لم تعد تمتلك السلاح الكافي لتقديمه إلى أوكرانيا وتتخوف من انتهاء مخزون الأسلحة في وقت قد تتفاقم الحرب. وتشتكي كل الدول الغربية من نفاد المخزون من الأسلحة، بل حتى الولايات المتحدة تراجع مخزونها من صواريخ هيمارس والصواريخ الخفيفة جافلين. ويحدث هذا في وقت تحافظ روسيا على مخزونها بشكل كبير، بل تمتلك التفوق في الصواريخ فرط صوتية والصواريخ المجنحة، الذي يمنحها خوض الحرب عن مسافة بعيدة بامتياز. وهذا يعني أن الاستنزاف في العتاد العسكري يعيشه الغرب بدرجة أكبر وروسيا بدرجة أقل.
وهكذا، قد تكون خيرسون، خاصة بعد موقف قائد القوات الأمريكية مارك ميلي، المنعطف نحو مفاوضات قد تكون بدأت سرية وقد تصبح علنية.
كاتب مغربي
«القدس العربي»