تبدو شخصيات الإنكليزية هيلاري مانتل مضطربة وقلقة، وفي حالة تناقض وصراع مع طبيعتها. وقد تكلمت عن هذه المشكلة في أول سيرة روائية لها صدرت عام 2003 بعنوان «الهروب من الأشباح». وحددت معنى كلمة شبح بواحد من ثلاثة.
الأول هو الأطياف ومن بينها خيال زوج الأم، وصور الملائكة. ويتخلل هذه التهيؤات وجبات وهمية، وبالأخص في وقت الجوع، كأن «ترى أمامها كعكة محلاة تطير في الهواء». أو أنها تلتهم «سربا من النحل». وكانت هذه الولائم تجري في بيت يحيط به جدار من الطوب الأحمر. ولا شك في أن التورية ليس بالسور لكن بلونه. فهو إشارة لجناية يرافقها سفك الدم. إلى جانب ذلك أبدت مانتل اهتماما غير مسبوق بالجغرافيا المتحولة والبديلة. وهذا لا يشمل تبديل المكان فقط، لكن أيضا المعنى المرتبط به، وأدى ذلك لاهتمام مماثل بأدوات قياس الوقت، ومنها الساعة. وقد قالت عنها في آخر فصل من السيرة: «إنها تتدلى على جدار بيتها بشكل قمر آخر مضيء» – وهذا معيار للتنوير والمعرفة. وقد وجدت أفضل صيغة للتعبير عن هذه القضية في أهم عملين لها. الأول «تبدل في الطقس» 1994. وتدور أحداثه في جنوب افريقيا، حيث إن التاريخ يغدر بالجغرافيا. وكما توضح الرواية لا تتوقف العلاقات عند حدود النهب للأرض لكنها تتطور إلى نهب للذاكرة. وأهم ما يحسب للرواية أنها لا تتكلم عن إمبريالية ملونة، أبيض – مؤمن مقابل أسود – وثني أو كافر، إنما تتبع المنطق الجدلي نفسه الذي بنى عليه العقل الرومانسي والتنويري أطروحته، وتقسم المجتمع الكولونيالي إلى ثلاث فئات: الأب الجلاد – ويمثله النظام. والعراب وتمثله البعثات التبشيرية. والأبناء وهم سكان الأرض الأصليون. وهذه بنية أوديببة معدلة تلغي الزواج الخارجي. وتحصر الجدل في توفير الغذاء للعقل أو للروح، ولذلك لا يوجد صراع أو دراما وإنما مجرد خصام. وربما يجوز أن نقول إنها شنت على افريقيا حملة صليبية – ناعمة، السلاح فيها هو الجائزة الممنوحة بعد الاستسلام. وكما قالت ميرلي روبين: لقد قسمت العالم إلى «حالات محزنة» و«نفوس طيبة» ولم تعمد إلى إنهاء قوة الشر الهدامة.
العمل الثاني «ثمانية شهور في شارع غزة» 1988. ويبدو كأنه سيرة ذاتية لحياتها في السعودية. وقد حرصت على ضمان نظافتها من أساطير الاستشراق، وصوره الجاهزة، التي تغذيها الفانتازيا والرومانسيات. فلا كلام عن النقاب وقصور الحريم، ولا أي إشارة عن الأنفاق التي تغرق بالنفط والحداثة السائلة، ولم تلجأ لفرز وتصنيف الأمكنة والشخصيات بالطريقة المعهودة: شرق مذكر بحالة انتصاب وغرب مؤنث يزخر بالمفاتن. فالحضارات، في هذه الرواية، تتقاطع وتتجاور، والأعراق والثقافات تتداخل. واستعملت مانتل الحمية الغذائية لترمز لهذا التقابل. ودخلت لروح الحضارات من بوابة تعرفها السيدات بشكل أفضل وهو المطابخ. وابتعدت عن أي حزمة أو أجندة للتبشير، بعكس ما فعلته في روايتها الافريقية، وأكدت على علاقات العمالة وتبادل المنافع. وبالنتيجة نجد أنفسنا في متروبول بديل، يدشن أول ظاهرة من نوعها، وهي تحويل الهجرات، من الشمال البارد إلى الجنوب المشمس. وعموما تؤكد مانتل في كل أعمالها على دور تنويري للريف الإنكليزي، وعلى دور تحديثي للمدينة الشرقية. وهذه مخالفة صريحة لأطروحة الاستشراق الأوروبي، وكل من يمثلها، وفي مقدمتهم لورنس العرب مؤلف «أعمدة الحكمة السبعة».
وعلى ما أعتقد أن العناصر الحرجة في رواية لورنس – وهي الدين والحرب والتصحر موجودة في كلام مانتل عن افريقيا وليس العرب. فكلاهما يبني فلسفته على رؤية واحدة للأحداث. وهو نقل الحداثة في أول حالة – فتح أسواق للسلع، والعمل على إنتاجها في ثاني حالة – بناء هياكل – أو معابد لدين عابر للقوميات والثقافات. والحقيقة إن هياكل لورنس لا تمنح الإنسان فرصة لتأسيس علاقة مع أرضه لأنها نقاط انطلاق، أو عروج من جغرافيا إلى جغرافيا مثل محطات قطار أو مضافات عشائر. في حين أن معابد مانتل كانت بشكل أسواق وأبراج، تدخل فيها صور جزئية وتخرج منها صور كلية. وللتوضيح كان بطل لورنس بصورة نبي جاء للهداية والمؤازرة. بينما كان قوام المدينة، في رواية مانتل، مؤلفا من عدة أقليات، تفصل بينها جدران التقاليد. وفي هذه الحالة يكون الثابت هو المعبد وإلهه المتخفي عن الأنظار، بينما المتبدل هو الإنسان الذي تحركه احتياجاته البسيطة واليومية. مع التأكيد على أبوة الإمبريالية الغربية للحضارة واستحالة المساكنة بين الأعراق والأديان، ولذلك فرضت مانتل على أبطال روايتيها فلسفة «الفجيعة». ويتضمن ذلك بالضرورة خيبة الرجاء بالمشروع الكولونيالي وبشقيه: التربوي والتجاري. فلا إفريقيا جاهزة لتبديل وجهها، ولا العرب جاهزون لتغيير أقنعتهم. وقد تناول الكويتي سعود السنعوسي هذه المشكلة المحتدمة بين الوجه والقناع في روايته الهامة «ساق البامبو». وإن كانت المشكلة محصورة ضمن شعوب المشرق، يمكن بكل سهولة ملاحظة الجدل الدائر بين الطبع والتطبع، والتراجيديا المحتملة التي تنجم عن اتباع أنصاف حلول.
الشبح الثاني هو الذات. ولا تخلو رواية لمانتل من شخصية تتطابق معها، لكنها دائما بحالة سوء تفاهم مع هذه الشخصية. ومثلما أنها ترفض بإصرار وضعها الوجودي، وتأثير المعاناة في الاختلاف مع الواقع، تحاول أن تلجأ ليوتوبيا ذهنية. وقد تناولت هذا الإشكال في قصص كتابها «التعرف على الكلام» 1985. وهي قصص من سيرتها، أو إنها زيارة للماضي. ولا يجوز أن ننظر لماضي مانتل على أنه مرحلة مرت من الحياة، بل هو ذاكرة محمولة.
أما الشبح الثالث والأخير فهو التاريخ، ولا تستطيع أن تبني قناعة ثابتة على هذا الموضوع. فمانتل تتعامل مع التاريخ الإنكليزي بطرق ملتوية. وغالبا ما تقف على طرفي الجدار العازل، تنظر من الخارج لما تحمله معها من معارف وخبرات، ثم تنظر لنفسها بالمرآة. ولذلك يمكن أن يكون التاريخ برأيها معرفة مكتسبة، أو تجربة شخصية. وقد اقتربت من هذا الموضوع في ثلاثيتها المعروفة: «قصر الذئب» 2009، «أحضر الجماعة» 2012، و»النور والمرآة» 2020. وقد حملت هذه الثلاثية كل أعراض التقدم بالعمر.
أولا، لجأت للمونولوجات والكلام بلسان صامت – وهو ما تسميه الفلسفة بالتفكير، لكن الحقيقة أنها كانت تكلم الآخر الذي يحمله الإنسان في لا شعوره أو صندوقه الأسود.
ثانيا، تخلت عن الجرعة الدرامية لمصلحة الجدل النفسي كما هو الحال في «لعبة الكريات الزجاجية» آخر وأضخم كتاب لهيرمان هيسة.
ثالثا، وهنا مربط الفرس، لم يخطر في ذهنها أن أوليفر كرومويل أهم من توماس كرومويل. وفوتت على نفسها هذه الفرصة الثمينة. لقد كانت الحبكة وبنية الخطاب تصلح لمتابعة مخاض كرومويل الأول – باعتبار أنه تتوفر لحكايته عناصر درامية في إطار تراجيدي وبطولي. كما أنه أقرب ببنيته الملحمية للملك لير (الأب المغدور به في مسرحية شكسبير) وللأخوة كرامازوف (الأشقاء الأوديبيين الذين تورطوا بصراع غاشم وسخيف مع الإرادة). لقد توفرت في حبكة أول كرومويل فكرة صراع الأجيال، وتناقض المصالح الطبقية، وأخيرا مشكلة المشيئة الطبيعية للقدر، أو بلغة أقرب للنقد الأدبي مشيئة البيئة والظروف. في حين أن كرومويل – توماس كان شخصية شيطانية، مجالها الغرف المغلقة والصالونات. إنه أقرب لعالم الرموز وبعيد تماما عن مجال الاشتقاق والاستعارة. ولهذا السبب لم يكن إنسانا تجريديا، ولم يكن صالحا لأسلوب المحاكاة الذي خرجت أهم الأعمال الروائية من معطفه ابتداء. والحقيقة إن آخر كلمة في الروايات التاريخية تكون للسيف. وهو سبب بقاء وشهرة أعمال مثل «السيف المعقوف» لهارولد لامب و»الفرسان الثلاثة» لألكسندر دوما الكبير» لكنها ليست لحكايات البلاط المسلية، ولذلك أرى أن هيلاري مانتل أعادت توطين أشباح الماضي القلق ونصف التراجيدي في ثلاثيتها، بعد أن تحررت منها في أعمالها السابقة.
كاتب سوري
“القدس العربي”