بداية، أنا مشجع ألماني طوال حياتي (وابتداء من العام 1974 تحديداً). لا رابطة وطنية أو قومية أو ثقافية أو لغوية وراء تشجيعي للمنتخب الألماني. فقط العقلية الكروية وفلسفتها وذاكرتها هي التي تربطني على نحو عاطفي وذهني بهذا “المانشافت”.
غيرة على سمعة الفريق الألماني، وعلى قيم اللعبة والرياضة، لا انحيازاً للجزائر، كرهت دوماً تلك اللطخة المسماة “فضيحة خيخون” (1982)، حين تواطأت ألمانيا والنمسا بمباراة مدبرة وهزلية لإخراج الجزائر من دور المجموعات.
عدا ذلك، في المونديال وخارجه، لم تأتني الحيرة أبداً في أي مواجهة بين بلد عربي و”فريقي”. تمتعت تماماً بالثمانية أهداف الألمانية في مرمى السعودية، واحترقت أعصابي في المباراة المجنونة بين ألمانيا والجزائر عام 2014، منتظراً الفوز الألماني. بل وإذا حدث ذات يوم أن تأهل المنتخب اللبناني إلى المونديال وتواجه مع ألمانيا، فسأرفع الراية الألمانية بلا تردد.
في كرة القدم، وأنا المتعصب لبايرن ميونخ، لا أستعين بنيتشه ولا بغوته ولا شيلر. لا أستحضر الأندلس حين أشجع فريق برشلونة الكتالوني ضد أشبيلية أو بلد الوليد، ولا أتذكر الاستعمار البريطاني حين أشجع ليفربول، ولا تعنيني مسائل الشمال والجنوب، حين أشغف بالمنتخب الأيسلندي (وجمهوره) في بطولة أوروبا 2016.
لا يخلو الأمر من سياسات وثقافات وأخلاقيات، لكن في سياق كرة القدم (وأهداف الرياضة ومثلها منذ الأولمبيا الإغريقية)، ننحاز للإنساني، للوضع البشري، فمن المشين مثلاً المونديال برعاية موسوليني، ومونديال آخر برعاية ديكتاتور الأرجنتين خورخي فيديلا 1978، وذاك الذي رعاه فلاديمير بوتين عام 2018.
ومن المشرف أيضاً الجهود الهائلة التي بُذلت في الملاعب والمدرجات وداخل الأندية والمنتخبات منذ أواخر الثمانينات للتخلص من كل ما يمت للعنصرية بصلة، ولا تزال. ومن الرائع إظهار كرة القدم تحديداً هذا المزيج المابعد قومي والمابعد إثني في المنتخبات الأوروبية تحديداً. والأروع هو هذا الاجتماع الملياري للشعوب مشاهِدةً ومنفعلة مع اللعبة النبيلة، وفق شعار مونديال قطر: الفوتبول يوحّدنا.
شجعت الفريق المغربي، فقط لأنه في هذا المونديال يمثل عن جدارة “الطامحين”، المكافحين للدخول إلى نادي الكبار، ولأنه مفاجأة مرغوبة دوماً في هكذا مناسبات كبرى، تماماً كما فعلت كوريا الجنوبية بإيطاليا عام 2002.. والأمثلة كثيرة. لم يأتِ تشجيعي (النسبي) لمنتخب المغرب بدافع قومي أو لغوي أو ثقافي، ولا من انحياز سياسي (نضالوي-عالمثالثي مثلاً).. بل بدافع الغيرة على كرة القدم لأن تبقى ميداناً رمزياً لتقدم الشعوب وتطلعاتها، ولأن تبقى هكذا، لعبة عادلة وديموقراطية وإنسانية.
لا يهمني إن كان منتخب فقراء أو أغنياء، وميلودرامية: “حرام، فقير.. فلنمنحه كأس العالم”، أو على الطريقة اللبنانية: “هذا ابن الشهيد، مع أنه كسول، فلننجّحه بالبكالوريا”. هذا لا ينفع لا في خطط التنمية والاقتصاد ولا في تحرر المجتمعات ولا في الرياضة. الجدارة وحدها هي المهمة. وهذا ما يمكن للمغاربة الافتخار به.
أما بخصوص عواطف التشجيع، فلو بقي المنتخب الألماني منافساً، لما التفت إلى المنتخب المغربي أو غيره، إطلاقاً. كان همّي بعد خروج ألمانيا هو تشجيع أي كان لإخراج البرازيل سريعاً، منعاً لحيازتها الكأس السادسة. وفي هذا السياق، يتوجب التوضيح إني مغرم بالشعب البرازيلي، بصورة هذه البلاد “الفردوسية” وروحها الحارة، وأوقّر معظم نجومها الكرويين. لكن زواجي “الكاثوليكي” من المانشافت، يلجمني عن أي خيانة، لا مع البرازيل ولا فرنسا ولا الأرجنتين.. ولا المغرب.
فاقتضى التوضيح.
“المدن”