أثار المسلسل التلفزيوني “الضاحك الباكي” الذي عُرض مؤخراً، ردود أفعال واسعة بسبب الأخطاء الواضحة التي وقع فيها صنّاع العمل من حيث الكتابة أو التنفيذ. المسلسل الذي يتناول سيرة حياة فنان الكوميديا نجيب الريحاني، انتظره الجمهور طويلاً منذ إعلان مؤلفه محمد الغيطي قبل سنوات الانتهاء من كتابته، لكن الحلقات التي أخرجها محمد فاضل جاءت مخيبة للآمال بشكل كبير.
فقد كتب الريحاني مذكراته مرتين، الأولى العام 1936 لمجلة “الاثنين” التي كانت تصدرها دار الهلال، والثانية قبل رحيله بقليل العام 1949 لدار الجيب. وكتبت بديعة مصابني هي الأخرى مذكراتها مرتين، أولاهما لمجلة “الأثنين” العام 1939 والأخرى للكاتبة اللبنانية نازك باسيلا عن دار مكتبة الحياة في بيروت قبل رحيلها العام 1974 بسنوات قليلة. وكان الرائد المسرحي عزيز عيد، حاضراً بقوة في مذكرات كثير ممن عاصروه، من بينهم روز اليوسف في مذكراتها التي صدرت في الخمسينيات وأعادت الهيئة المصرية للكتاب نشرها، وكذلك فاطمة رشدي التي وضعت مذكراتها في كتاب تحت عنوان “كفاحي في المسرح والسينما”، وأيضاً يوسف وهبي الذى وضع مذكراته في ثلاثة أجزاء تحت عنوان “عشت ألف عام” عن دار المعارف قبل خمسين عاماً وأعادت الدار نشرها مرة أخرى منذ سنوات، أيضاً وضعت السيدة سعاد أبيض كتاباً مهماً عن سيرة والدها الفنان جورج أبيض وصدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، فضلاً عن كتابات الأديب إحسان عبد القدوس الكثيرة عن والده الممثل والكاتب محمد عبد القدوس، وكتابات الرائد المسرحي زكي طليمات عن كل معاصريه.
كما أنني قمت العام 1999 بتحقيق سيرة حياة الريحاني في كتاب “العصر الذهبي للكوميديا” الصادر عن مهرجان القاهرة السينمائي الدولي وأعيد نشرها العام 2007 في كتاب “ذكريات وأشواق” عن مهرجان القاهرة السينمائي الدولي أيضاً.. وهذه المذكرات والكتابات كلها متاحة وسهل الحصول عليها خصوصاً لمن يعمل في مجالي الثقافة والإعلام.
(مع ماري منيب في “شهر عسل بصل”)
لكن يؤسفني القول بكل اطمئنان أن مؤلف الحلقات لم يقرأ تلك الكتب التي ذكرتها سابقاً، أو ربما قرأ ثم قرر إعطاء ظهره لكل ما قرأه عن نجيب الريحاني وجميع من عاصروه، وترك لخياله العنان وهو يكتب تلك الحلقات مستلهماً بعض القشور البسيطة عن سيرة الريحاني. ولو كان المجال يتسع في هذا المقال لعدّدتُ الكثير من الأحداث التي جانَبه الصواب في ذكرها والتي غصت بها الحلقات، وعلاقة الريحاني بالممثلة اليهودية صالحة قاصين نموذج بارز على تلك المغالطات.
صالحة قاصين، هي ممثلة مسرحية قديمة ذات أصول يهودية (أعلنت إسلامها لاحقاً)، وكانت ذات يوم واحدة من ملكات جمال مصر يتصارع عليها الرجال ويتخاطفها أصحاب الفرق المسرحية الكبرى وهي من مواليد 1888 وظلت على قيد الحياة حتى ما بعد منتصف الستينيات تقريباً. ولمن لا يتذكرها جيداً فهي العجوز ثقيلة السمع في فيلم “لوكاندة المفاجآت” العام 1959 أمام إسماعيل ياسين، أو العجوز التي أخذت تملأ صدر ماري منيب نحو زوج ابنتها إسماعيل ياسين أيضاً في ليلة زفافهما ضمن أحداث فيلم “شهر عسل بصل” العام 1960.
وقد تعدَّدت الروايات حول طبيعة علاقتها بالريحاني. فمنهم من اعتبرها غراماً ملتهباً انكوى به الرجل، ومنهم من اعتبرها مغامرة نسائية من مغامراته، لكن الريحاني يكشف بنفسه في مذكراته شكل هذه العلاقة حيث يقول: “وإذا كنت قد أشرت إلى أول رواية فليسمح لى القارئ العزيز أن أعرج على أول غرام علق به قلبي.. كنا نجلس في قهوة إسكندر فرح المجاورة لمسرحه بشارع عبد العزيز وكان من بين الممثلين زبائن هذه القهوة الممثل القديم علي أفندى يوسف الذي أصبح بعد ذلك من عتاة متعهدي الحفلات، وكانت لعلي قطقوطة من بين الممثلات لا تزال إلى اليوم في عنفوان الشيخوخة تحتل أحد أركان قهوة الفن، كما كانت في الماضي تأوى إلى مثل هذا المكان في قهوة إسكندر فرح، وتلك القطقوطة هي السيدة (ص.ق) وكان علي يوسف يعتز بصداقة هذه الفتاة باعتبار ما كان، فلما كنت أذهب لأشاركهما الحديث كانت “نظرة فابتسامة فمش عارف إيه، فشبكان” وظلت أواصر الصداقة تنمو بيني وبين فتاة علي يوسف هذه بينما كانت تتراخى بينها وبين صديقها من دون أن يعلم الرجل من أمرنا شيئاً”.
يضيف الريحاني: “وأخيراً لعب “الفار في عبه” وقاتل الله الفئران كلها من أجل خاطر هذا الذي لعب في “عب أبى يوسف”، أقول إن الشك بدأ يساوره لكنه كان على جانب كبير من اللؤم، فلم يُبدِ لنا شيئاً مما في نفسه، وأخذ يعمل على مراقبتنا من حيث لا نشعر. كنت في ذلك الوقت صبياً في السادسة عشرة أو السابعة عشرة من عمري، ومع عدم المساس بفضيلة التواضع أرى أن لا مانع من الاعتراف أن “خلقتي لم تكن لتقارن بـ … استغفر الله العظيم خلقة الصديق اللطيف علي يوسف”، زد على ذلك أنني كنت موظفاً مضمون الإيراد في حين كان منافسي (يا مولاي كما خلقتني) كل هذه العوامل شدت أزري وقوت سببي، فاتفقت مع الغزال النافر على تمضية نهاية الأسبوع في الإسكندرية بعيداً من علي يوسف ورقابته القاسية. ومعروف أن يوم الأحد هو موعد العطلة الأسبوعية في البنوك، فحصل الرضا والاتفاق بيني وبين محبوبي على أن نغادر القاهرة إلى الثغر ظهر السبت ثم نعود منه صباح الاثنين، ثم اسمع ماذا حدث.. قبل موعد الخروج من البنك زارني في مكتبي الصديق علي يوسف، وألح علي في أن أقرضه شيئاً من المال لأنه دعا بعض زملائه إلى نزهة خلوية، ولذلك يحتاج إلى كذا من الفلوس، فأعطيته ما طلب وأنا أحمد الله على “زحلقته” وأدعو بطول العمر لأصدقائه أولئك الذين شغلوه عني في هذا الظرف السعيد، وودعت أبا يوسف إلى الباب وعدت إلى مكتبي مطمئناً، وفي الموعد المحدد قصدت إلى محطة السكة الحديد، فوجدت “الكتكوتة” على أحر من الجمر في انتظاري على رصيف القطار الذي امتطيناه وقلوبنا ترقص فرحاً.. وسار القطار بنا ينهب الأرض نهباً، ونحن نحلم بالسعادة التي سترفرف علينا بأجنحتها في الثغر الباسم. ووصل بنا القطار إلى الإسكندرية، ونزلنا نسير وخلفنا الشيال يحمل حقيبتنا المشتركة، وما كدت أسير خطوات متأبطاً ذراع المحبوبة حتى برز أمامي عزرائيل في ثياب الصديق الملعون علي يوسف، لقد اقترض اللعين مالي، واشترى منه تذكرة السفر وجاء معنا في عربة أخرى بالقطار نفسه، وراح يستقبلنا هاشّاً باشّاً مرحباً وهو يمد يده لي بالتحية شاكراً إياي على دفع نفقات السفر لحضرته ولحضرة “بسلامتها الست المصونة” والجوهرة المكنونة التي استلبها مني وتركاني أعض بنان الندم”.
ثم يمضي الريحاني فيقول في موضع آخر من مذكراته: “لم يكن لي مثوى في ذلك الوقت سوى قهوة إسكندر فرح أو بيت حبيبة الفؤاد في غيبة صديق الطرفين الأخ علي يوسف. ما دام الحديث قد جرنا إلى هذين الصديقين فلنعرج عليهما بحادثة أخرى كاد يغمى عليّ بعدها، ذلك أن الفتاة باعتبار ما كان، اتفقت وإياي على إشارة معينة هي أنها إذا وضعت نوراً في النافذة كان معنى ذلك أن عليا بن يوسف غائب عن البيت وأن في وسعي أن أزورها، والعكس بالعكس. وفي إحدى الليالي تراءى لى أن نوراً يشع من النافذة، فعرفت أن الطريق خالٍ، وأن السينافور مفتوح، فخلعت حذائي وتأبطته، ثم صعدت درجات السلم بلا حركة، وطرقت الباب طرقاً خفيفاً جداً وإذا الفاتح!! الفاتح غريمي العزيز علي يوسف الذي تناول الحذاء من يدي، وتركني أعدو إلى الشارع ببذلتي حافي القدمين”.
انتهت رواية نجيب الريحاني عن صالحة قاصين كما جاءت في مذكراته، ولم يأت على ذكرها ثانية بعد هذه المواقف رغم أنها استمرت لبعض الوقت في فرقته المسرحية أثناء وبعد الانتهاء من نشر تلك المذكرات للمرة الأولى في مجلة الاثنين العام 1936. فهل كان ما بينهما حب حقيقي أم مجرد مغامرة عابرة من مغامرات الريحاني؟ المدهش في الأمر أنه رغم اكتمال البناء الدرامي في تلك المواقف التي رواها الريحاني بنفسه في المذكرات فإن مؤلف “الضاحك الباكي” تغافل عنها، وراح يقدّم مشاهد الثلاثي نجيب وصالحة والغريم علي يوسف بكثير من الاجتزاء والتشويه.
“المدن”