نادرة هي الثورات التي مرّت بمنعطفات كثيرة وخطيرة كثورة السوريين من أجل الحرية والكرامة، وقليلة هي الشعوب التي قدّمت من التضحيات ما قدّمه الشعب السوري العظيم من أجل تحقيق حلمه باقتلاع الاستبداد والديكتاتورية، وإقامة دولة المواطنة والديمقراطية التي تضمن لكل مكوّناتها وأبنائها العيش بحرّية وعدالة وكرامة.
ولأن الإصرار على انتصار الثورة، والعمل على تحقيق أهدافها كان مرعباً للأقربين والأبعدين؛ عمل الجميع على وأدها وخنق مفاعيلها وأثرها في المنطقة كلها. فمنذ انطلاقتها سقطت الأقنعة، وانكشف قبح الفاعلين فيها وقذارة اللاعبين ودناءة أهدافهم حتى آلت إلى ما هي عليه اليوم، بعد 12سنة من التضحيات، ولم تستقرّ على حال، بل ازدادت مصالح الدول وتعارضت أهدافها، وتناقضت سياساتها بفضل عصابة الإبادة الأسدية التي رهنت البلاد ومقدّراتها، لتبقى جاثمة على صدور من تبقّى من السوريين، تتاجر بمعاناتهم بمزيد من الوحشية، ولا تملك من أمرها غير تنفيذ ما يُملى عليها، وبفضل معارضة ارتهنت لمعيليها ومموّليها، وارتضت دور المنفّذ دون اعتراض، مثبتة قصورها وعجزها وفشلها.
إن الاستدارة التركية في موقفها الأخير من القضية السورية، ليست وليدة الصدفة أو الانفعال، بل أُسّس لها مع عدوَّي الشعب السوري (روسيا وإيران) في مسار أستانا واتفاقات سوتشي التي كوّنت مساراً بديلاً لجنيف، وأبدعت قراءة ملتوية لقرار مجلس الأمن 2254، فشاركتهما التخادم والتقايض ودحرجة الثورة السورية إلى مستنقع لا خروج لها منه. إلى أن سقطت ورقة التوت بتغيّر الوضع الدولي وتبدّل أولويّات القوى المتحكّمة والمتصارعة، إذ وقع الروس بمطبّ حربهم على أوكرانيا، وتوافق ذلك بحراك الإيرانيين ضد نظام الملالي، والذي يبشّر بثورة لا تبقي ولا تذر، فكانت الفرصة مواتية لتغتنمها تركيا عبر تموضعها في الصراعات الدولية وتصفير مشاكلها مع الجميع، لتلعب دورها الإقليمي والدولي بابتزاز كافة الأطراف وتجيير التصدّعات في مصلحتها، واستثمار الاصطفافات الدولية الجديدة فتسرّع إعادة تدوير نظام “القتل والإجرام” المتهالك، وتمدّ له حبل النجاة بدفع روسيّ، ليكون التطبيع هدية بوتين لخدماته، وربّما إجازته لمتابعة دوره في سورية، ورضى إيرانيّ، ليكون انخراط النظام في خريطة الطريق الجديدة، هديّته قبل الانتخابات التركية، ولا اكتراث أمريكيّ مع إقرار قانون كبتاغون الأسد، وتعامٍ أوروبيّ في ظلّ الحرب الأوكرانية التي طاله من شررها الكثير.
إن المسيرة الحالية للتطبيع التركي مع النظام الأسدي، وقد قطعت شوطاً كبيراً في الاجتماع الثلاثي، أخطر من محاولات سابقة لبعض الأنظمة العربية، إذ ربما ستنقله لبداية تطبيع إقليمي يفتح له أبواب العالم الذي يكتفي بالقول لا الفعل، وقد أقرّ أنه يريد تعديل سلوك النظام لا إنهاءه، على الرغم من مسرحية “قانون قيصر” الذي تم اختراقه والتحايل عليه، و”قانون كبتاغون الأسد” الذي سيكون له المصير ذاته. ولكن البعض يرى في هذه الخطوة حصاراً وخنقاً للنظام، وهو المجبَر على الانصياع روسياً، بعد أن صار عبئاً لا يمكن النهوض به، واستحالة إصلاحه، أو نفخ الروح فيه ، وهو الموصوف مجرم حرب، وأخطر زعماء المخدرات في العالم.
بقي أن ندرك أن النظام الراغب بالخطوة التركية، على تمنّعه الظاهر، لن يتمكّن من تحقيق المتطلّبات التركية؛ لأكثر من سبب ذاتي وموضوعي، ولكنه سيستثمر خطوة التطبيع التركية ملهاة لحاضنته، وسواها من رهائنه، يصبّرهم على المزيد من المعاناة والجوع وشظف العيش بانتظار الآتي بعد فتح الطرق الدولية (M4) وإعادة استلام المنطقة الشرقية بنفطها وغازها وقمحها وقطنها، والقضاء على ” الإرهاب “، وهو على قناعة طفلية أنه هزم المحتلين والإرهابيين وأعاد الإعمار بعودة اللاجئين! متناسياً أن الشعب السوري القوة صانعة القرار في القضية السورية قال كلمته الفصل، وأن المستثمرين من المتصارعين لن يسمحوا بنصر يثقّل محور أستانا، وقد صدّعوا الرؤوس بجنيف و2254، ولن يفرّطوا ببندقيّتهم على الأرض “قسد” على الرغم من تذبذبها واندراجها ، في أكثر من مشروع يعمل ضد الحليف الأكبر “أمريكا”، خوفاً على مصيرها بعد انسداد أفق استمرارها.
حتى اللحظة كلٌّ يعمل على تنفيس اختناق أزماته بتطبيع مقنّع يكسب فيه مرحلياً، ولكنه تناسى صوت السوريين المتعالي، بيضة القبّان في كلّ ربح أو خسارة.
رئيس التحرير