سيدي وملاذي وخالق أسطورتي في هذا الكوّن. سيد المياه الجارية منذ الأزل، كوت حفيظ ملهم الشعراء والثوريين وحامي أجسادهم من وهن الأزمنة وقسوتها. كيف تركتني بلا ماء وسط هجير الصحراء. أ لله الشكوى أم لك؟ أرى أنها لا تستنطق لساني إلا في حضرتك، فقد رأيتك شيئا وافر الضوء، كثير العطاء، ملزما لما لم يُلزَم، نافرا من أحشائك نور الدنيا فاتبعت طريقك الشائك والمربك.
لا تسألني.. هل أنا مردان أم سامح أم أم مردان أم سعيد الناصري أم زليخا أم العلوية حميدة أم أبو زهي ؟ فكل منا يستلهم من الآخر صورة الحياة، ومعاً سعينا إلى حتوفنا، متنا فقبرنا أو متنا أحياء بلا لائحة تذكر. فكلنا واحد. سيدي سأل أحدهم سعيد الناصري في المقبض وهو يُسلمه خاتما قال له: خذه معك إلى مدينة كربائلو بعد أن يُطلق سراحك، فأنت ورّاق وطالب علم وتبحث عن مخطوطات المعرفة، أعطه إلى رجل يُكنى بسعيد الناصري. فاستغرب الرجل الكهل وسأل: ألم تكن أنت سعيد الناصري؟ أجاب: لا.. لا يهم ذلك، فنحن حَـمَلة أسماء وأفكار نسير إلى حتفنا بساقين قويتين ورأس عامر ومرفوع، نورنا نور وماؤنا ماء، أما أنا فقد دنت منيتي ويتعذر عليّ أن أجتمع بتلاميذي. قال الرجل: ما رأيت قط مثل ذاك الرجل، تعذب كثيرا وما وهن، وفي آخر زمن كنت معه، رفع رأسه وجعل من كفيه جناحا طائر، وهمَّ بالدعاء، وسمعت جيدا ما ختم به الدعاء قائلا: ربي أغفر لأعدائي قبل أصدقائي، فقد زلت أقدامهم، وسبقت ألسنتهم دفة الكلام، فرقابهم قصيرة. وفي الصباح أخذوه إلى المجهول ولم يعد، فعرفنا مصيره رحمه الله.
سيدي كنت تتلو حكاياتك في حضرة مجلسك في الليالي، كما كانت تفعل الملاية زهرة، والسيد يوسف وأبو زهير، لكني فجأة وجدت نفسي دون حكـّاء، فتهت أو تصورت ذلك، لكن صوتا ردد ما كان يقوله هؤلاء بحقي: خذ ناصية خلق الحكاية وارويها، فقد صلب عودك وزادت معرفتك بالأشياء. ابدأ بسرد الحكاية ولا تتهيب من شيء، ولا تترك حكايتك تنتهي يوما، بل واصلها بما يبتكره ذهنك من جديد موصول بها، صله بالزمن الذي تعيش، وزوّقها بخصائص المكان الذي تقطن فتجدها قد بَرِق لونها، وتجددت معانيها، فالكل يصغون إليك، فلا تبخل عما تبتكره ملَكَتك، وتعيده ذاكرتك طريا سلسا. فابتدأت.. وما أن دخلت بوابة الحكاية حتى تناهب التعب وجودي. لم أكن أدرك حجم معاناتكم وأنتم تسطـّرون الحكاية، ولا أفقه مدى الجُهد الذي تبذلونه حين تـُعيدون رويها، ولا أدرك عثرات اللسيان والنسيّان، حيث تبتكرون ما يسد خـُرم نسق حكايتكم بجهد غير ملحوظ، فكلنا لا نرغب إلا بالجاهز من الأشياء، لا نسعى إلا إذا تداركنا الزمن بقبضته. فقط عرفت طعم العذاب الذي يُخلـّف الوهن غب كل جلسة كنت أبتكر من خلالها الحكاية، أو أرددها. فقد ذكرت زليخا يوما في مجلس الدرس بجوار الخربة المرفقة بدارهم، التي يقطنها يونس الكهل المتصوف، الذي ترك كل تهدجاته وتراتيله عالقة في ذاكرتي، هو الحامل لواء تبديد وحدتي كما فعل شنيف وأبو زهير وأضرابهم من المتصوفة الذين ظهروا لي في مسيرة حياتي كالضياء في حلكة الليل البهيم، قالت زليخا: ماذا أرى عليك وفيك يا سعيد؟ /قلت: لا شيء /بلى كنت تـُحدّث التلاميذ.. في ماذا كنت تتحدث؟ /قلت: أعيد ما روته خالتي الملاية زهرة ليلة البارحة في مجلس النساء/ قالت: فقط؟/قلت: نعم والله لا شيء غير هذا!/ قالت: بل لاحظت عليك غير هذا/قلت: وكيف ملاتي؟ /قالت: أنت تبتكر أشياء لم تقلها أختي الملاية زهرة في المساء!/قلت وبخوف وحذر: كنت أرمم ما نسيته من الحكاية بما أستطيعه من كلام/قالت وقد فرّحت لقولها بعد أن ربتت على كتفي وقبلتني على وجنتيّ: لا عليك يا بنيّ، فأنت من يروي الحكايات من بعدنا. وهنا تذكرت ما قاله أبو زهير سليل دور العلم والهارب إلى وجه البرية تخلصا من جور الأزمنة، من أنك بملئك جراب الحكايات سوف تتعذب في حياتك/ قلت: كيف؟/ قال: لأنك تـُعيد المأساة، وتـُجهد كي تبتكر وتروي بعضا من تفاصيلها، لكي لا تدع الحكاية تتوالى على نمطها المنقول، وتلك محنة يا ولدي.. محنة كبيرة. أنظر لي ما الذي دفعني إلى الصحراء سوى جور الزمان، وقسوة الحكاية التي لم ترق لأحد وراقت للبراري، فكلما حدّثت الصحراء بحكاياتي، تزهّر حقولها، ويزهو فراشها الملوّن، فتغدو جنة عدن في دلمون، بينما تعذر عليّ التلاؤم مع مجريات حياتهم. فلكل منا حكاياته، ولك أسلوبٌ في روي الحكايات، وما خُلقنا إلا لنتعذب في الحياة، وهذه من السنن التي كتبها الرب في لوحنا المحفوظ.
ماذا أقول وأروي بحضرتك يا سيدي، من بعد ما ذكرت ورأيت. أنا لا أبالي بما فعلته بي يوم قصدتك، الذي يعنيني تشبثي بك حد الفناء. فما فعله أخوة يوسف بي لهو مرٌّ شديد الوقع على نفسي. أوَ تدري لماذا؟ قد تعجب يا سيدي إذا قلت لك بسبب كوّني أحب العالم بشكل جنوني، لم أخن أخوتي الذين أودعوني الجب، لم تربكني حجارة الطريق، أوصلت ما أؤتمنت عليه كاملا، زرت المقابر ومغتسلات الموتى وحدثت الأخوة عن ضيم الدنيا وخونة أقفاص الأسر والمقابض وجور السجـّانين وحّمَلة الوجوه الذئبية، ومددت يدي إلى روضان البدوي، واعتصرت إحساسي وأنا أخرج جثمان أبيه من بيت الشعر، ووضعته جالسا على الوتر المتشنج من الشِك، وفتحت عينيه كي يرى زخات المطر التي افتقدتها صحراؤه في حياته، ثم غادرته تاركا إياه مع وحدته، تبللني زخات المطر العذبة الوقع على نفسي، تصور يا سيدي أن البدوي أخذه الشعور بالوحدة والوحشة من بعد مغادرة والده الذي اعتاد خرسه، فبقي يتلمس طريقه لوحده في برّية لا أول لها ولا آخر. وبودي أيضا أن أقول عن جور أخوتي، أخوة يوسف، فقد آلمتهم الحقيقة التي يعرفونها جيدا في أني لم أسب فهد ولا سلام عادل ولا محمد باقر الصدر ولا عامل السكك مديّح، ولا طعمة مرداس ولا سيد وليد ولا حتى فؤاد مكَطوف أو خالد الأمين وعلي مطرود. لم أذكرهم بسوء في حضرة الطـُغاة لأخلّص جسدي من ظلم كان يحيط بي، بل صمتُ، وكان للصمت قوة لا تـُضاهى.عرفت الحق فنطقت به، وأدركت الباطل قبل وقوعه فتجنبته، ولما وقع ابتعدت عن آثاره قدر ما أستطيع. سيدي ما مرّ بنا كثير، مبك ومحزن وقاتل ودافع للجنون. وفي أحايين كثيرة كنا نتمنى أن لا يكون مكاننا هنا، بل ليكن بين المقابر أو في المصحات العقلية، فهي أكثر أمانا. ولكن ليس للقدر من يد تـُمسكه.
قال لي باسم، وهو مريض التقيته في مستشفى الرشاد، كان نزيلا في إحدى ردهاته.. إني لا أرغب بالخروج من المستشفى، فأنا بين أخوتي، أشعر بالاطمئنان هنا ولا أشعر به في مدينتي وبين أهلي. وقال أحدهم وهو يحدثني عن مجريات إجازته من المستشفى يومي الخميس والجمعة، حيث يذهب إلى بيت أسرته في ضواحي بغداد، يأكل الطعام الذي يشتهي ويشاهد أكثر من دور في السينما ويُغيّر ملابسه ويتبضع الحاجيات لمن لا أحد يزورهم من النزلاء، يُفرحهم ويُطيّب خواطرهم. سألته لِمَ أنت هنا إذن؟ قال: إنهم أسرتي، يُبعدوني عن ضجيج الدنيا والكذب هناك، فقد تعودت حياة أقراني.
سيدي.. الكلام كثير، والذاكرة بئر لا ينضب، فكيف تـُريدني نسيان كل ما تعرفه أنت، فأنت الشاهد الصامت على أفعالي، ولكن لا تتحرك لك شفة، حتى حين تهت في ملكوتك، وأصابتني غشاوة العمى، لم تنتشلني من عظام أجساد أبي وأجدادي جميعهم، أما انكسر قلبك على ابنك الذي يستدل على طريقه باللمس ، فتركته يُقلب العظام بجنون أنت تعرفه، هل أصفك بقسوة القلب، أم أنك تحاول أن تـُرينا مالم يره أجدادي من قبل. أرى أنك هكذا كنت، ودليلي في كوّنك انتشلتني أنا الوحيد من غموضك، لتضعني بين يديّ القدر من جديد، وصببت لعنتك عليّ! وأي لعنة كانت يا سيدي، بالله رفقا بي، فأنت باعدت بين الأم وولدها، فلا أمي عرفتني، ولا قومي أدركوا صورتي مجللا بالشيب والتجاعيد التي لملمت نضارة وجهي، ولك في هذا درس وحكمة لم يدركها قومي. إنها سبعة أيام اختزلت من خلالها كل عمري، فقذفتني من جوف الحوت مدمى الجسد كأني مسلوق في قدر ماء فائر، لولا زليخا التي أخذتني بحضنها ودثرتني، مرددة: لا عليك فقدرك هكذا، المهم أني عرفتك، ويومها خرجت عن كل ما تعلمته من أدب الكلام قائلا: أما والله أني ملقنك درسا بليغا، فمنك أستقي البلاغة، وإليك أرمي بها، فإن لم أكن أنا من يقوم بهذا فذريتي تكون، والتفت إلى زليخا قائلا.. زليخا لأدخل عليك بالحلال فتنجبي سامح، يستلهم سجيتي؟ فكان ما كنت أفكر فيه يا سيدي. كان فتى يُفكر بطريقته، لا ينقاد للجاهز من الأفكار، ولا يتبّع ما تناقله الأجداد، لأنه ولـِدَ في زمان ومكان غير مكانهم ولا زمانهم، له من الرؤيا والرؤى ما يفوق بهما عن كل ما أتيت به، فاطمأن بالي، وولدت من جديد في شخص سامح الرجل الفذ.
قال لي سعيد الناصري؛ لقد قاسيت كثيرا حتى وصلت مدينة الحاج شرهان، فالصحراء صعب اختراقها، فلولا ثلة الصبيات على شفة البئر في الهجير، لهلكت موتا، حدثنيّ عن أخيه عبد الله وعن عبوره البرّية، ولقائه المكاري وهو يقود حميرَه قائلا: لقد آنست معه ولم يعرّفني بشخصه، غير أني عرفته وعرفت مصير أخي من خلال ما بدأت يداه تعتصر جسدي وهو يودعني، ببكائه المحبوس في صدره، ولم أنبس وقتها ببنت شفة، فتركته يذوب مع حميره كنقاط ضوء تختفي تباعا أمام النظر، حتى تلاشى تماما.
سيدي لم تكن محنتي معك يا سيّد المياه، وإنما مع سيّد البراري الحاج شرهان، الطاقة التي لا تعرف سوى قهر الآخر ومحقه، فمدينة مسوّرة كمدينته، لا ينفذ من سورها أحد، وكان كثير الاعتقاد بأزليته وديمومته، لكن كيف يكون ما لا يمكن أن يكوّنه القدر، فحساب الزمن طويل وقاس وذو درس وحكمة. فهذا زمان يصح أن تردد في حضرته هذا البيت من الشعر:
لعمرك ما ضاقت البلاد بأهلها لكن أخلاق الرجال تضيق
سيّدي.. الحكايات كثيرة، وأنت سيّدها المثابر، أما أنا فقد أتممت دروس روي وابتكار الحكاية. فقد زرعتم فيَّ دربة الحكي، ولساني يقوده عقلي، وتستنهضه ذاكرتي: غير أن الزمن من الذهب كما يقولون، إنه زمن الآخرين، لذا أكتفي بما ورد من حكاياتي، وأرجئ الكلام إلى حين، فقد أدركنا المساء، ولا بد من أن نتوقف عن الكلام المباح.
كاتب عراقي
“القدس العربي”