أفريقيا السوداء بشكل عام لا تزال لغزا يحتاج المزيد من الدراسات لإلقاء الضوء على ثقافاته المتباينة وتنوُّعه الإيكولوجي والديمغرافي. ومن اللافت أن أغلب الدول الافريقية، إن لم تكن كلها، تضم عدَّة ثقافات في البلد الواحد؛ والسبب أن افريقيا لم تكن في السابق مقسَّمة إلى دول، بل كانت مجرَّد مجموعة من القبائل، وكل قبيلة ذات لغة وثقافة وحضارة مختلفة. وفي بعض الأحيان، قد يظهر حاكم قويّ، فيضم عدَّة قبائل لسلطانه، ويكوّن بهم إمبراطورية، ويحتفظ سكَّان الإمبراطورية بعاداتهم ولغاتهم القبلية. ومن ثمَّ، لم يندثر العديد من اللغات القبلية في افريقيا حتى الوقت الحالي، على الرغم من تعاقب الأجيال وحركات التطوُّر التكنولوجي.
ومن الحالات الفريدة في الحضارة الافريقية التي لا تزال لحد كبير تحتفظ بإثنياتها المتعددة هي دولة السودان، ذات الهوية الافريقية بحكم الموقع، وإن كانت عربية الهوى بحكم انتمائها لدول الوطن العربي. وعبر حقب التاريخ المتعاقبة، توافدت على السودان موجات من المهاجرين، فأثَّروا وتأثروا بحضارة هذا البلد، وكانت النتيجة هي بناء واقع فلكلوري فريد لا ينطبق إلا على السودان نفسها. فافريقيَّة السودان تختلف كثيرا عمَّا هو افريقي، أمَّا عروبته فهي لا تشبه الأنماط السائدة في دول شمال افريقيا وغربها، وبعيدة كل البعد عن العروبة في شكلها الخليجي. فالسودان ذو واقع اجتماعي وثقافي وحضاري قائم بذاته. بيد أن التباين الإيكولوجي والديمغرافي أحدث تباينا في الأنشطة السائدة في كل بقعة على اختلافها، ما أثَّر بالتالي على الثقافة الفلكلورية لكل بقعة على حدة. إلا أن المظاهر المشتركة للجوهر الفلكلوري الذي انبثق من وقوع مناطق السودان المختلفة تحت ظروف سياسية واجتماعية واحدة، جعل الفلكلور السوداني يتَّسم بالوحدة في الشكل، وإن نجم التباين من تجليَّاته التي تعبّر عنها كل منطقة بأسلوب مختلف.
ولا يزال الأدب الشفاهي في السودان يحتل مكانة مميزة، ومن ألوانه السائدة: الأشعار والحكايات الشعبية والحكم والأمثال، التي تختلف باختلاف البيئة التي نشأت فيها، سواء أكان بيئة قروية أو حضارية أو بيئة شبه متعلّمة. ومن أشهر الألوان الحكايات الشعبية التي احترف إلقاؤها أفراد أو جماعات يطوّفون بالبلاد ويسردون قصصهم في بعض الأحيان، بمصاحبة آلات موسيقية أو بعض المغنين. وأحد الألوان الأخرى التي حظيت بالمقدار نفسه من الشهرة كانت القصائد السردية التي لا تزال تلاقي استحسانا كبيرا. ويتم إلقاء تلك القصص أو الأشعار، إما باللغة العربية أو بأي من اللغات المحلية في السودان، مثل اللغة الفوراوية المنتشرة في غرب السودان.
الأدب الشعبي على الرغم من الاهتمام الحديث به وبدراسته، إلا أنه بمثابة البوابة التي يمكن من خلالها فهم الشعوب. وفي الأدب الشعبي السوداني تمنح للمرأة حقوق لم تحظ بها في مجتمعها.
ومن الجدير بالذكر أن المرأة في الفلكلور السوداني تحظى بمكانة كبرى، وكأنَّها طالبت بحقوقها الريادية وتم تخويلها سلطات واسعة بحكم ما استطاعت حفره لنفسها من مكانة مميزة. ومن أشهر النسوة من صاحبات السلطات الريادية هن «الحكَّامات»؛ وتعني هذه الكلمة «المرأة التي تحكم سلوك الرجال». ولقد ظهرت الحكَّامات في البوادي والقرى السودانية. ويأتي تميُّزهن من القدرة الفائقة على حفظ الأشعار وترتيلها، وخاصة اللائي يجدن توظيفها في مواقف محددة. فالحكَّمات ينشدن شعر الحماسة ويحرّضن الرجال على الحرب والدفاع عن القبيلة، ويشكرن الرجل الشجاع الكريم حامي حمى الأرض والمال والعرض. ومن أشهر هؤلاء الحكَّامات هن حكَّامات دارفور اللائي اضطلعن بدور وطني رائع في العصر الحديث. فعندما فشلت السلطات في وقف النزاع الذي نشب بين قبائل دارفور في غرب السودان، تم اللجوء إلى الحكَّامات اللائي تدخلن بحكمتهن، ومن خلال وساطتهن تمت المصالحة بين القبائل.
ومن الجدير بالذكر أن الحكَّامات أميَّات، لكن مساهمتهن الإيجابية تجاه مجتمعاتهم الريفية لا تقدر بثمن. وأشعارهن تعكس الثقافات المتنوعة، وفي بعض الأحيان المتباينة لقبائل دارفور، والتي ينشدونها في مناسبات متنوعة، وأغلبها مناسبات المزارعين. والحكَّامات الرُّحَل هن بمثابة الآلة الإعلامية للمناطق الريفية الأقل تطوُّرا، خاصة في غرب السودان، لهذا تعد الأشعار الشعبية الشفاهية التي يلقونها هي الإعلام الشعبي بمفهومه الواسع. وغالبا ما تطلق على الحكَّامة ألقاب كثيرة مثل: الحكَّامة والبنت المغنية وشاعرة البادية، أو غيرها من الألقاب؛ إلا أن كل ذلك لا ينفي أن لهن مكانة اجتماعية مرموقة في المجتمعات الريفية، ويحظين باحترام لا نظير له من قبل أعضاء عشيرتهن ومن جمهورها.
وشبيه بالحكَّامات، يوجد الشعراء «الهدايون» وتأتي التسمية من تخصصهم في إهداء أشعارهم للرجال، خاصة ذوي السمعة الطيبة منهم. وأشعار الهدايين إما مدح أو هجاء. ويطلق على شعر المدح اسم «المشكار» ويهدَى المشكار لكل من يقوم بأفعال طيبة يستحق عليها الشكر. فهناك مشكار الرجال ومشكار النساء ومشكار الخيل. وينتشر «الهدايون» الجوَّالة في غرب السودان، وكذلك في الحبشة وبين قبائل المورش في المغرب العربي، وقبائل البرع في اليمن.
لم تتفوَّق المرأة الريفية في الفلكلور السوداني في الشعر فقط؛ فإسهاماتها في المجتمع ودورها في تقويمه يبدأ منذ الطفولة. ففي تلك المجتمعات الأقل تطوُّرا ينتشر لون فلكلوري آخر يعمد إلى تقويم الصغار منذ الطفولة وغرس القيم الحميدة فيهم. وهذا اللون الفلكلوري هو القصص الشفاهي الذي يلقب بالأحاجي؛ فهناك الأحاجي الطويلة أو القصيرة منها، ويوجد أيضا لون آخر من القصص وهو الألغاز. والموضوعات التي تتناولها تلك الأحاجي هي التي تتسم بالتشويق، وتجذب الأطفال والكبار، وتدور موضوعاتها حول الجن والعفاريت ومغامرات الغيلان، فتغرس الشجاعة في نفوس الصغار بسماع استطاعة الفرد هزيمتها بالذكاء، وفي الوقت نفسه تصبح رادعا لتقويم سلوك الصغار عن طريق فتح مداركهم على تجارب مختلفة. ويتم غرس قيم المحبة والتسامح في الأطفال، مع تجمُّعهم في كل ليلة في فناء الجدة (أو الحبوبة) لسماع والاستمتاع بقصصها وحكاياتها المسلية. ولا يبرح الأطفال أماكنهم إلا بعد أن يغالبهم النعاس، فيهرع الكبار إلى حملهم لمنازلهم بعد أن تشبع الأطفال بجرعة من التاريخ والثقافة وأسس أخلاقية وروحانية تلتصق بذاكرتهم، بعد أن تتغلغل في العقل الباطن فتكون بمثابة عملية برمجة مبكرة. وفي ذلك، لا يقل دور الحبُّوبة عن الدور الذي تقوم به الحكَّامات في المناطق الريفية، ولكلا الفئتين نصيب وافر من الاحترام والمكانة الاجتماعية المرموقة لغرسهن قيم سمحة في نفوس من يستمع لهن، وإن كان دور الجدات يفوق دور الحكَّامات؛ لأنهم يعملن على تقويم أجيال منذ الصغر.
الأدب الشعبي على الرغم من الاهتمام الحديث به وبدراسته، إلا أنه بمثابة البوابة التي يمكن من خلالها فهم الشعوب. وفي الأدب الشعبي السوداني تمنح للمرأة حقوق لم تحظ بها في مجتمعها.
“القدس العربي”