صدر عن دار نلسن في بيروت كتاب “دعوة إلى العشاء/ الكتاب الثاني”، وهو نصوص مختارة لطلاب الكتابة الإبداعية في الجامعة الأميركية في بيروت، إشراف وتحرير وتقديم الروائي رشيد الضعيف. هنا نص المقدمة التي توضح وجهة الجيل الجديد وعلاقته بالكتابة:
ما بين الكتاب الأوّل “تهيّأ لدويّ حضوري”، والكتاب الثاني هذا “دعوة إلى العشاء”، انهار الاقتصاد اللبناني، وانهارت الليرة، وانتشر وباء كورونا، واكتملت الجريمة العظمى -جريمة انفجار مرفأ بيروت. وقد ترك كلّ ذلك أثرًا بالغًا على كلّ ميادين الحياة في لبنان، وبينها الجامعة بالتأكيد، فتأخّر اكتمال هذا الكتاب، وقد هاجر طلّاب هربًا من انسداد الأفق، وانعتاقًا من اليأس القاتل.
حدَثَ إذن ما هو مدمّر للهمم!
لكنّني قرّرت أن أنجز هذا الكتاب رغم كلّ شيء، ومهما اشتدّت الظلمة، لأنّ الحياة يجب أن تستمرّ بأحسن الطرق.
اخترت مجموعةً من النصوص، التي كتبها طلابي خلال السنوات القليلة الماضية، في صفّ الكتابة الإبداعيّة التي أدرّسها في الجامعة الأميركيّة في بيروت، وحرّرتُها وأعددتُها للنشر.
عملت على بعض النصوص حتى استوت جاهزةً لتنشر في كتاب، وكدت أن لا أتدخّل في عدد منها.
في النصوص التي اخترتها تسجيل لما يستوطن باطن هؤلاء الطلّاب. كنت أدعوهم دائمًا إلى الإنصات إلى دواخلهم، وإلى ما يشغلهم فعلًا، وإلى قول “ما لا يُقال”، وألّا يخافوا من ممارسة حرّيتهم التي قد تعرّضهم للاستهداف. “من ألّف استهدف”. قول عربي قديم.
ودعوتهم أيضًا إلى قول “ما يُقال”، أي ممّا يمكن قوله في العلن بلا شعور بالحرَج أو الحذَر.
ودعوتهم إلى أن يكون هدفهم اكتمال نصّهم، لا أن يكون قولَ الحقيقة أو نقلَ الواقع، فالفنون، ومنها الفنون اللغويّة، وصوليّة بطبعها، تسخّر كلّ ما تستطيع تسخيره من أجل الوصول إلى هدفها الذي هو اكتمالها، ووسيلتها إلى ذلك المخيّلة.
ودعوتهم إلى أن يتقنوا البناء، لا أن يستسلموا للسهولة والإنشاء.
…
كنت أكتشف نفسي، أقصد طريقة كتابتي، وأنا أعلّق على نصوصهم، وأسمع تعليقَهم.
وكثير من الملاحظات التي أبديتُها لهم كان أحياناً موجهًا أيضًا إليّ: لا تَعِظْ! لا تعلِّم! انتبه ألّا “تَدُسّ” رأيَك ليتخلَّلَ خطابَ أو سلوكَ شخصيّة من شخصيّات روايتك. ابْنِ عملك ودَعْه يقول ما يشاء.
لا ينشغلْ بالُك، فعملك سيقول!
…
في أساليب هؤلاء الشباب قوّة منعشة، هي قوّة شبابهم لا شكّ، وقوّة أحلامهم. يملكون طاقةً تمكّنهم من الكتابة، تنبع من “جوّانيّة” حيّة وغنيّة ومتوثّبة.
أغلبهم طالبات، تقرأ نصًّا لهنّ فيلفت انتباهك أوّلًا، ثم تُعيد قراءته ثانيةً، فتُدهَش بِبُعْدِ معانيه، واقتصاده في القول.
وما يشدّ انتباهك فيه هو أنّ كاتبته (أو كاتبه) لا تلجأ إلى الاستعراض اللغوي، ولا تتملّكها نرجسيّة مفادها: أنظر كم أنا حلوة. بل تذهب في الجوهر، في المعنى الصعب، في المعنى الوجودي، أو في المسائل الشائكة.
ويتضاعف إعجابُك، حين تعلم أنّ كاتبتَه طالبة في البيولوجيا مثلًا، تتخرّج هذا العام، وقد قُبلت في الطبّ، أو طالبة في الأعمال، أو ما إلى ذلك. أقصد أنهنّ لسنَ متخصّصات في الأدب إلّا القليل منهنّ.
…
لكنّ ثقافة هؤلاء الطلّاب في الغالب، ليست من قراءة الرواية أو الشعر، أو ما إليهما، إنّما هي من أمكنة أخرى، من المسلسلات والأفلام، ومن الفنون التي أنبتتها الإنترنت واحتضنتها.
إنّ دراسة هذه الظاهرة هي في عهدة علماء الاجتماع، والمهتمّين بتطوّر الظواهر الثقافيّة، وبدلالاتها.
…
رأيتُ أنّ في هذه النصوص ألوانَ الطَيْف، أو جلَّها. وقدّرتُ أنّها تشير إلى ما يعتمل الآن في بطن الحاضر، وما سيورق في المستقبل. بكلام آخر، رأيت أنّ هذه المواضيع هي التي تُشغل هذا الجيل، أو بعضَ هذا الجيل على الأقلّ، ورأيت أنّ الروائي اليوم أو الشاعر أو السينمائي أو كاتب المسرح، قد يجد فائدةً في هذه النصوص بما هي نوافذ تطلّ على الآتي.
…
أراني، كيفما نظرت إلى هذه الأعمال، أجدها نصوصًا جديرة بذاتها، تُغني الأدب، بما يُمتِّع وتُضيء وتكشف وتشير وتُعْلِم، ولنشرِها والإشارةِ إليها فوق ذلك فائدة، يجنيها الطلّاب أنفسهم، والجامعة بالذات.
“المدن”