حينما أعلنت حروف الكتابة عن ظهورها الهيروغليفي، كانت ضمنيا تعلن عن بداية منحى جديد في منهجية تخزينها لما تلهج به ألسنة الكون من خطابات، على امتداد الأمكنة والأزمنة. وهو بامتياز، منحى تاريخي وتأسيسي لمشروع استبدال الكائن لذاكرته العضوية – سواء على المستوى الشخصي أو الجماعي – بذاكرة تقنية، هي بمثابة تطوير مادي واستثنائي لملكته الإبداعية، المتميزة بحضورها العيني والملموس، الذي سيؤهلها لاحقا، لمواجهة غول أسطوري يسمى عادة بالنسيان. ذلك الخبير بمحو كل أثر يدل على ما كان حيا، وموجودا من قبل بين حدائق المعيش وحرائقه.
وكما هو ملاحظ، فإن مجرى الحديث هنا، يأخذنا في اتجاه «ذات» رمزية اسمها الكتابة، التي ستتطلع تدريجيا إلى إغناء مدوناتها، بمجموع الإسهامات المتعددة الاختصاص، الصادرة عن شعوب الأرض، كي تأخذ في نهاية المطاف، شكل قناة توصيلية للمعرفة، المسكونة بفضول الاستجابة إلى نداءات الأسئلة المقبلة من الجهات السبع. ما يجعلها عصية على أية هيمنة احتكارية، تسعى إلى ممارسة وصايتها على ما ينبغي الاحتفاظ به، وما يتعين نسيانه. وباعتبار أن إنجاز مهمة التعريف بماهية «الشيء» يتوقف مبدئيا على قابلية المتلقي لفهم واستيعاب موضوع هذا التعريف ومادته، فإن الكتابة ستكون مدعوة لتنشيط هذه القابلية، بمجموع ما تمتلكه من وسائط، تتداخل فيها المقومات الحروفية، بمقوماتها الإخبارية والدلالية. وهي عوامل تساهم في تحفيز الفضول المعرفي لدى المتلقي، بتناغم تام مع ميله الفطري الحريص على الكشف عن أسرار الوجود وحقائقه. مع العلم أن الفضول المعرفي ككل، هو أحد أهم مصادر الدينامية، التي يستطيع بها الكائن /المتلقي، الفصل بين ما تعلنه حقائق الأشياء، وما تخفيه، مادية كانت أو رمزية. ومن المؤكد أن ميل التلقي إلى إمعان النظر في ما تطرحه الكتابة من إشكاليات معرفية أو جمالية، ناتج عن الاقتناع المسبق بضرورة الاستجابة لنداء التعرف، الذي يساهم بشكل أو بآخر في تفعيل آليات التلقي. ما يعني، أن تعرض هذه الآليات لأي خلل تواصلي، سيؤدي حتما إلى هدم الجسر الرابط بين ما تطرحه الكتابة من إشكاليات، وتلقيها المعبر عنه بالفهم والتفسير. ولعل من بين أهم سمات هذا الخلل التواصلي، الجهل بالقوانين المعتمدة في صياغة مادة الكتابة، ما يؤدي إلى ارتداد علاقة التلقي بالخطاب إلى سالف عهودها، أي إلى مرحلة الإنصات السلبي للمحكيات الشفاهية، التي لا تلبث حياتها أن تنتهي بنهاية زمن تلفظها.
ومن الواضح أننا نشير في هذا السياق، إلى لعنة القطيعة المحتملة، التي تهدد الكتابة بقراءاتها، كلما خبا بريق ذلك التفاعل المتبادل بينهما، بزوال شروطه وحيثياته، وبالنظر لوعي الكتابة بضراوة هذا التهديد وخطورته، فإنها لا تنفك تبحث، عن أكثر الوسائط مكرا، تلك التي تخول لها إمكانية تأجيج وهج الفضول المعرفي، الكفيل باستدراج مواكب القراءات إلى مرابعها.
ومن أجل تحقيق هذه الغاية، تبدو الكتابة مدعوة لإعمال النظر في تدبير آليات اشتغالها، سواء من حيث توظيفها لأبعادها الحروفية والدلالية، أو من حيث استثمارها لتعددية اختصاصاتها، وكلها عوامل تصب في مصلحة تخصيب كفايات التلقي، كي يرتقي هو أيضا بقدراته التفسيرية والتأويلية، إلى مستوى الانفتاح على ما تزخر به خطاباتها من إشارات معرفية وجمالية. وإذا كانت المقاربات المهتمة بمختلف مرجعيات التلقي، تجمع على حقيقة هذا المعطى، فثمة معطى آخر شبه منسي، ويمكن الاهتداء به إلى نوايا الكتابة، المبطنة بنزوعها التسلطي، حيث أنها تتخذ من الوظيفة التوصيلية والتواصلية ذريعة لتملك المتلقي، والسيطرة على آلياته الفكرية والشعورية، كي يتفاعل بصورة تلقائية مع ما تبثه أنساقها من إشارات، وهو نزوع جد مبرر في سياق تطلع الكتابة إلى تملكها لأكبر قدر من القراءات، على أساس التقاسم المشترك للقناعات والاهتمامات الفكرية والجمالية نفسها.
تبدو الكتابة مدعوة لإعمال النظر في تدبير آليات اشتغالها، سواء من حيث توظيفها لأبعادها الحروفية والدلالية، أو من حيث استثمارها لتعددية اختصاصاتها، وكلها عوامل تصب في مصلحة تخصيب كفايات التلقي، كي يرتقي هو أيضا بقدراته التفسيرية والتأويلية، إلى مستوى الانفتاح على ما تزخر به خطاباتها من إشارات معرفية وجمالية.
والملاحظ أن هذا النزوع يراوح بين المجاهرة النسبية، والتكتم التام، باعتبار أن تناول الكتابة للإشكاليات الفكرية ذات الطابع الرصين، لا يحتاج بالضرورة إلى توظيف وسائط غريبة عن جوهرها بغاية استقطاب متلقيها، خاصة أن هذا النوع من الإشكاليات، يتوجه أساسا إلى النخب المتميزة بنضجها المعرفي، التي تتفاعل مع مواضيع قراءاتها، استنادا إلى ما تتمتع به هذه الأخيرة من مصداقية الإقناع، وليس على أرضية التأجيج المجاني للأحاسيس والمشاعر. وهو السياق الذي تتوخى فيه الكتابة تكتمها على نزوعاتها التملكية لمتلقيها، حيث تتفادى إقحام كل ما من شأنه التأثير سلبا في خصوصية الخطاب، باعتبار أن كل إخلال بقواعد التعاقد القرائي، من شأنه تعريض قناة التواصل إلى الإصابة بالأعطاب المعرقلة لآلية اشتغالها. علما بأن القول بالتكتم، لا يعني التنازل عن فكرة تملك المتلقي، بقدر ما يعني مراعاة البعد العقلاني في إنجاز هذه الغاية المنشودة. وهي إواليات يفترض فيها أن تكون نابعة من صلب الخطاب، حيث تكون الغواية الممارسة على المتلقي ضمنية، وذات حمولة فكرية ترقى إلى انتظاراته المعرفية، التي تنهض منها الأسئلة، الحاضرة بين تضاعيف الخطاب.
من هنا، يجب التنويه بأن العبرة، لا تكمن في تبني الكتابة الفكرية للإشكالات الأكثر إثارة، والأكثر استبدادا باهتمام النخب، بقدر ما تكمن في منهجية إقناع المتلقي بحمولتها الفكرية والمعرفية، ما يفسر دلالة عزوف القراءة عن التواصل مع نسبة كبيرة من الخطابات الفكرية، نتيجة افتقارها إلى السبل الكفيلة بانتزاع المتلقي من حياده، ودمجه في حركية الخطاب. ومن المؤكد أن الأمر لا يتعلق بوصفة جاهزة، تعتمدها الكتابة في ممارستها لمهمة الانتزاع هذه، بقدر ما يتعلق بالعمق التكويني والبنائي الذي تتشكل بها هوية وخصوصية الخطاب الفكري. والإشارة إلى العمق التكويني، تحيل رأسا على تلك القوانين المنصهرة تلقائيا وجدليا في جسد الكتابة، التي ترتقي بها إلى مستوى الكائن الحي، الخبير بجماليات الحلول في ما يبسطه تحت أنظارك من قضايا. والرأي ذاته قابل لأن ينسحب على مختلف الخطابات المعنية باستقطاب اهتمام المتلقي، خاصة منها الخطاب السياسي، والإعلامي بمجموع توجهاته. مع العلم أن الخطاب الإبداعي، الموسوم بجماليته الإيروتيكية هو أحد أكثر الخطابات التي تخرج فيه الكتابة عن طوعها، كي تغرق قراءها ومستمعيها في حياض اللذة. وذلك لعمري هو التملك الاستحواذي، الذي تسعى إليه الكتابة، عبر إحراقها لمجموع ما تسدله القيم والأعراف الاجتماعية من حجب، كي تمنح للجسد الحق في تجليه، وقد أمسى مضاء بشهواته الجنينية. كما تمنحه الحق في الإنصات والنطق والفعل أيضا، بعيدا عن أي رقابة أخلاقية محتملة. فالخطاب الإيروتيكي هو النموذج الذي تتخلص فيه الكتابة من وسائطها التنكرية، كي تسمي الأشياء بأسمائها، على غرار كل قداسة متهتكة تستغيث في انتشائها ببراءة العري الأول، الذي تعترف السماوات والأرضين ببهاء غوايته.
إن الكتابة هنا، تتخلى عن وقارها المزعوم، وعن الفتاوى المتعالية التي لا يني العقل الأخلاقي يبشر بتعاليمها، لتفك بذلك وثاق الحكم الخرقاء المطاردة بسياط اللعنة، والمسكونة في آن بغيلان الشهوة المنذورة لنداءات اللامتناهي.
هكذا إذن، وفي أتون هذا المقام تحديدا، سيكون عليك أن تعايش زمن انجرافك وانخطافك القاسي في جبروت الحكي. ثم، وبكل ما يخالج الكلمة من فيض الرغبة، سيكون عليك أن تستجيب، ضدا على مدونات الأمر والنهي، إلى ترانيم حكي مدجج بكل ما في المروق الجامح من سخاء، ومن شبق، لترى ذاتك بعين الكتابة، وأنت تتقلب مثل عيدان يانعة على لهب، لا برد يسري في نار مفاصله، مستسلما هكذا، طواعية لشريعة التملك التي بها وحدها تدين الكتابة، ولا ترضي بغيرها بديلا.
شاعر وكاتب من المغرب
“القدس العربي”