حتى الموت في زلزال ليل جليدي ممطر، لا يجد ساسة غضاضة في طرحه على جدول بورصة التكسب السياسي. وما قد لا يتبادر إلى ذهن بشري سوي أن تطرح أهوال الزلزال التركي ــــ السوري في بورصة المزايدات، يبدو طبيعياً في منطق ساسة لا يقيمون للأخلاق البشرية السوية وزنا. فلم يكن أحد ليتصور أن يوظف النظام السوري زلزالاً قد يكون الأكبر في تاريخ المنطقة القريب، ويشترط على الغرب مرور مساعداته الإنسانية من بوابة دمشق أملاً في فرض إعترافه به. فقد صرح سفيره في موسكو بأن الولايات المتحدة تسيس المساعدات الإنسانية ورفضت إرسالها عبر النظام. هذا في حين جمدت الإدارة الأميركية لمدة محددة عقوبات على دمشق، وقالت بأنها لا تفرق في المساعدات المرسلة بين ضحايا الزلزال السوريين والأتراك، لكنها ترفض التواصل بحجة الكارثة الإنسانية.
في حين ينشغل العام بأسره في التعامل مع الكارثة وويلاتها، وجد الكرملين في الزلزال فرصة سانحة لتحقيق مصالحة أردوغان الأسد بوساطته. ولم يرى إعلامه ومستشرقوه وخبراؤه سوى هذه المصالحة ليركزوا عليها في لحظات الحزن والمآسي هذه. فقد نشرت صحيفته vz يوم المأساة نصاً بعنوان “الزلزال يمنح تركيا وسوريا فرصة للمصالحة” بوساطة موسكو.
تشير الصحيفة إلى برقية بوتين لكل من أردوغان والأسد بالتعبير عن تعازيه والإستعداد لتقديم المساعدة، وتقول بأن المتحدث بإسم الكرملين أشاد بكفاءة النظام الروسي Strunaللكشف عن صلاحية الأبنية للسكن.
تنقل الصحيفة عن خبير روسي قوله بأن الزلزال قد يساعد في تنشيط الإعداد للقاء أردوغان الأسد، والذي كثر الحديث عنه في الشهرين المنصرمين. لكن إلى أي مدى ستكون تركيا بحاجة إلى اللقاء من وجهة نظر انتخابية، ما زال يتعين على التقنيين السياسيين لأردوغان أن يقدروا ذلك. فقد كانوا على مدى سنوات يقنعون الناخب التركي بأن الأسد عدو وإرهابي. ولذا سيبدو الحوار بنظر هذا الناخب إما إستسلاما من قبل أردوغان، أو نهاية منطقية للحرب المكلفة كثيراً. وروسيا بحاجة للحوار التركي السوري، وستقوم بأي شيئ لكي يتم، على قول الخبير.
لكن مستشرق وخبير مجلس العلاقات الدولية الروسي RIAC يشكك في قرب المصالحة التركية السورية في ظل المأساة المشتركة. ويقول بأن البلدين منهمكان حالياً في إزالة مخلقات الزلزال التي لم يتضح حجمها حتى الساعة، وسيحاولان الإبتعاد الآن عن المسائل السياسية. لكنه، وفي الوقت عينه، لا يستبعد إمكانية لقاء أردغان الأسد بعد حين لمناقشة المشكلات التي طرحها الزلزال. ويعتبر أن المأساة شكلت، ولا شك، دافعا جدياً للتعاون بين الطرفين.
وتنقل الصحيفة عن مدير المجلس المذكور أندريه كارتونوف قوله بأن العلاقات بين أردوغان والأسد تتطور في الفترة الأخيرة نحو الأفضل، ويعتقد أن الأتراك بدأوا ينظرون إلى الأسد بأنه باق طويلاً، ويتعين التوافق معه بطريقة أو بأخرى. وعشية الإنتخابات التركية تُطرح مجدداً مشكلة اللاجئين التي لا يمكن معالجتها من دون الحوار مع دمشق. وهذه المسألة أصبحت عنصر صراع تركي داخلي، حيث أن المعارضة التركية تتهم القيادة بالتقاعس عن معالجتها. والتوجه نحو إقامة حوار مع الأسد متوفر لدى تركيا، ويصبح الزلزال عاملاً إضافياً عقد هذا الحوار. وثمة أسباب أكثر جدية للحوار التركي السوري، وهي تطال الوضع في الشرق الأوسط برمته. وروسيا ستقدم، بالطبع، المساعدات الإنسانية للبلدين كونها على تجربة كبيرة في الأوضاع المشابهة. ومن وجهة النظر السياسية، تعاون روسيا مع كل من أنقرة ودمشق أمر إيجابي لكون البلدين “صديقانا”.
كاتب سياسي في نوفوستي يتفق مع كارتونوف في أهمية الحوار التركي السوري بالنسبة للشرق الأوسط ككل، ويرى أن “الزلزال في تركيا وسوريا سيغير الشرق الأوسط”.
يرى كاتب نوفوستي أن مصالحة أردوغان الأسد على خلفية الزلزال ليست على أهمية قصوى للبلدين فحسب، بل تأكيد وازن على تصاعد نفوذ روسيا في الشرق الأوسط. سوريا على توجه نحو موسكو يعود لستينات القرن الماضي، لكن تركيا التي كانت منافساً دائما لروسيا، وأحياناً عدواً، ومع عضويتها في الناتو تتخذ الآن موقفاً مستقلاً على الصعيد العالمي وفي علاقتها بروسيا. وتعزيز العلاقات الروسية التركية في مختلف المجالات مفيد للطرفين، لكن سوريا كانت في العقد الأخير حجر عثرة. إستعادة العلاقات الشخصية بين أردوغان والأسد لن يترك تأثيره على العلاقات بين الطرفين فقط، بل وعلى موقع روسيا في الشرق الأوسط ككل.
وعلى غرار ما كتبت يوماً صحيفة الكرملين من أن “روسيا تعيد لتركيا وسوريا علاقات الجوار”، يقول كاتب نوفوستي بأن تركيا وسوريا ستبقيان جارتين دائماً، “وستبقى روسيا بجوارهما دوماً”. و”ليس بوسعنا الحؤول دون الكوارث الطبيعية، لكن بوسعنا المساعدة في مصالحة الجارين المتخاصمين”.
صحيفة القوميين الروس SP نشرت في 8 الجاري نصاً بعنوان “هل يصبح أردوغان ضحية الزلزال”، وأرفقته بآخر ثانوي “الكارثة الطبيعية قد تدفن ليس آلاف البشر فقط، بل والمستقبل الرئاسي للزعيم الحالي”. القوميون المتششدون الروس، والذين تتبادل صحيفتهم “الخبرات” مع صحيفة الفاشيين zavtra، هم أكثر فئات المجتمع الروسي كراهية للأتراك ويشيرون إليهم غالباً بالإنكشاريين.
تقول الصحيفة أنه لا يزال من المبكر التحدث عن حصيلة الكارثة، لكنها بالتأكيد ستكون بالنسبة لتركيا “الأشد هولاً” في تاريخها. وتتساءل ما إن كانت الحصيلة ستكون كذلك بالنسبة لأردوغان الذي تنتظره الإنتخابات في ايار/مايو المقبل. وتقول بأن الكارثة الطبيعية التي قضت على آلاف الضحايا ودمرت مئات الأبنية جاءت في ظل إقتصاد ليس في أحسن حال في الفترة الأخيرة، وأزمة مهجربن متواصلة بسبب الحروب في سوريا والعراق. ومن الواضح أن نجاح أردوغان سيتوقف في الكثير الآن على مدى نجاح السلطة في التعامل مع عواقب الحدث.
تنقل الصحيفة عن المستشرق عينه وخبير المجلس الروسي للعلاقات الدولية الذي سبق أن نقلت عنه صحيفة الكرملين قوله بأن الكارثة الطبيعية بوسعها تعزيز وضع أردوغان، كما بوسعها إضعافه. وكل شيء يتوقف على مدى نجاح الحكومة بالتغلب على عواقب الكارثة من دون أن تفسح في المجال لإتجاهات سلبية جديدة في الإقتصاد. والمعارضة ستحاول بالطبع الإستفادة من الوضع بتوجيه الإنتقادات للحكومة لتقصيرها في عدم إتخاذ اي تدابير لتعزيز مقاومة الزلازل في منشآت المدن.
وفي رده على سؤال الصحيفة عن حظوظ السلطة في النجاح بالخروج من المأزق قبل الإنتخابات في ظل إقتصاد ليس في افضل حال، يرى المستشرق أن السلطة ستنجح في ذلك. لكن المسألة ستكون في كيفية رد الفعل على نجاح السلطة هذا. وإذ يرفض التنجيم كيف سيكون عليه الوضع، إلا أنه يؤكد أن أردوغان تتوفر لدية كل أسباب النجاح. فالإقتصاد ينمو بشكل عام، وثمة مشكلات في سعر صرف الليرة التركية ووجود تصخم وسوى ذلك. لكن، مع هذا، ليس من هبوط جدي ما، ولذا فإن الظروف هي بشكل عام إيجابية، و 6% نمو في الإقتصاد خلال نصف سنة ليس بالأمر السيئ.
وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة وفرنسا واليونان ترغب في سقوط أردغان، إلا أنها، مع ذلك، تقدم له الدعم، فهل سيتغير موقفها على خلفية الكارثة؟ يرى المستشرق بأن الأمر طبيعي، فهذه البلدان كانت ستقدم الدعم حتى لإيران في حال وقوع كارثة مماثلة.
“المدن”