ورغم ما وصل إليه الرجل فقد كان قمة فى البساطة والتواضع، وكان يذكّر نفسه دائماً بما كان عليه وما وصل له. أذكر أني التقيته للمرة الأولى فى ربيع 1988 عندما كنت أبحث عن صور جديدة لعبد الحليم حافظ في ذكراه الحادية عشرة آنذاك، وكنتُ في بدايات العمل الصحافي، فيما كان هو نجم نجوم التصوير الفوتوغرافي. ذهبتُ إليه في الاستوديو الخاص به في منطقة أهرامات الجيزة، وبعدما أثنيتُ على أناقة الاستوديو فوجئت به، ورغم أن صداقتنا لم تكن قد توطدت بعد، يقول لي:
فقال: “أنا ابن منطقة المناصرة الشعبية بالقرب من شارع محمد علي في قلب القاهرة القديمة، انفصل والدي عن والدتي وأنا دون العاشرة، في هذه السن الصغيرة ألحقني أبي للعمل كمساعد كهربائي، لكني هربت منه وقررت ألا أعود إلى البيت، وكان يوم عيد الأضحى، ولم يكن معي سوى أربعة قروش فقط، وحدث أن نمت في الحديقة التي تقع أمام المتحف الإسلامي في منطقة باب الخلق بالقرب من الحي الشعبي الذي أسكن فيه، فجاء أحد اللصوص وسرق مني القروش القليلة التي كانت معي، فأخذت أجمع أعقاب السجائر من الأرض حتى أجد نقودا أسد بها رمقي، وتسكعت في الطرق المحيطة إلى أن فوجئت بأمي أمامي وقد أعياها التعب والبكاء وهي تبحث عني طيلة اليوم، لقد أنقذتني أمي من الضياع وربما الانحراف، وعدت معها إلى البيت لأحتفل بالعيد مع أصحابي، وبعد تقلبي في مهن عديدة إلى جانب تحصيلي العلم، ذهبت إلى خال لي كان يعمل فى مطابع صحيفة “المصري” وهناك تعرفت على المصور الأرمني زخاري الذي عرض على العمل كحامل لحقيبته أثناء قيامه بالتصوير، وشيئاً فشيئاً أخذت أتعرّف على تلك الآلة العجيبة التي تختزل الزمن فى لحظة، وعشقتها حتى الجنون، وأشهد أنّ زخاري لم يبخل على بالعلم وبتلقيني أسرار المهنة وخبرة السنين”.
وأضاف: “تحولتُ إلى مصور صحافي بالصدفة في العام 1953 حين قامت مظاهرة أمام مبنى صحيفة المصري وقام الطلاب بقلب عربة الترام، ولم يكن أي من المصورين موجوداً فى تلك اللحظة، فقمتُ على الفور بالتقاط الصورة التي أعجبت القائمين على الصحيفة وقرروا تعييني مصوراً فيها، ومنها إلى صحيفة نداء الوطن، ثم، الجمهورية، قبل أن تحدث النقلة الكبرى فى حياتي بالعمل في صحف مؤسسة أخبار اليوم مع الرائدين مصطفى وعلي أمين العام 1960”.
وظل فاروق إبراهيم مطاردا بتهمة أنه المسؤول عن تكريس الصورة الذهنية لعبد الحليم حافظ المريض، بمئات الصور التي التقطها له وهو على فراش المرض، لكنه كان يرد على ذلك بأنه ذكاء عبد الحليم أيضاً الذي كان يلح في طلب ذلك. صحيح أنه لم يكن يدّعي المرض لكنه أدرك أن هذا مبعث تعاطف الجمهور معه، فأراد تسجيل معاناته الدائمة لحظة بلحظة.
(من الصور القليلة التي جمعت حليم والست)
ولم يكن المصور الراحل صديقاً لعبد الحليم وحده من الفنانين، وإنما كان صديقاً لمعظم المشاهير من أهل الفن والرياضة وعلى رأسهم السيدة أم كلثوم، فقد رافق كوكب الشرق، خصوصاً فى سنواتها الأخيرة، وتجول معها في رحلاتها الخارجية التي قامت بها لصالح المجهود الحربي عقب هزيمة حزيران/يونيو 1967، وهو صاحب الصورة الشهيرة التي التقطها لها أثناء غنائها في مسرح “أولمبيا” في باريس العام 1967، حين هجم عليها أحد معجبيها من الجمهور الجزائري يريد تقبيل قدميها، وتسبب ذلك فى وقوع أم كلثوم على المسرح، وعندما نشرت صحف “أخبار اليوم” تلك الصورة غضبت منه أم كلثوم وقاطعته لبعض الوقت قبل أن تستعيد خدماته وصداقته مرة أخرى.
ويُذكَر لفاروق إبراهيم أنّه كان مصوراً غير تقليدي، وكثيراً ما ابتكر أفكاراً لصور أصبحت معتادة بعد ذلك، مثل الصور التي يصورها بنفسه لنفسه (سيلفي) وقد بدأها في أواخر سبعينيات القرن الماضي مع الرئيس السادات، وكررها مع الفنان عزت أبو عوف وأخوته، كما أبدع في زوايا التصوير واختيار توقيت اللقطة مثلما حدث مع فنان الكوميديا الراحل سمير غانم الذي التقط له صورة في وضعية الطائر.
ولئن رحل الرجل عن دنيانا قبل 12 عاماً، فإنه ترك لنا آلاف الصور التي تخلّد ذكراه ما دامت ذكرى من قام بتصويرهم باقية، وترك أيضاً سيرة طيبة في أوساط المشاهير في مصر، ليثبت فاروق إبراهيم أن الصورة والسيرة أطول فعلاً من العمر.