الواقعية مذهب أدبي لا نهاية محددة للتنظير فيه، فالواقعية هي اليوم وغدا كما يقول بوريس بورسوف. وهي بالنسبة إلى الفعل السردي، أسلوب في تمثيل الواقع مهما كانت صور هذا الواقع غريبة ومتغيراته معقدة. وقد عرف العصر الحديث صورا مختلفة من الواقعية، منها النقدية والاشتراكية والجديدة والسوداوية والطبيعية والسحرية والمفرطة وغيرها، لكن أيا من تلك الصور لم تقدر أن تضع للواقعية أوزارها التي فيها غاية المطلب ومنتهاه في أدبيات عملها وتنظيرها لما به تدعي أنها وصلت إلى خط نهائي لا يعيدها إلى خط الشروع الأول. إذ ليس بمقدور أي صورة واقعية أن تكشف عن كنه الحقيقة الفنية للواقع متجسدة ومحددة بشكل جمالي وموضوعي.. وكيف يمكن لواقعية ما أن تصور الواقع على حقيقته والواقع نفسه متغير ومتعدد، ومجالاته تتوسع وآفاقه تتنوع ومعها يتنوع الأدب السردي وتتوسع ميادين واقعيته وقد يكون بعضها غير عقلاني.
وقد وظفت السرديات الكلاسيكية والحداثية أساليب شتى في تمثيل الواقع الموضوعي للحياة ومنها توظيف العجيب والغريب الفنتازي، بينما تعدت السرديات ما بعد الكلاسيكية هذا العجيب والغريب، وصارت تعتمد في تمثيل الحياة على ما هو غير واقعي، متخذة من اللامحاكاة أساساً لنوع من السرد عرف بالسرد غير الطبيعي وفيه تكون الخيالية ما بعد الحداثية استعادة للخرافية التي عرفتها مرويات التراث السردي العالمي عامة والتراث السردي العربي خاصة.
وإذا كانت أكثرية السرد القديم ضائعة، وما وصل إلينا منه يعود زمنه إلى عصر ما قبل الإسلام، فإن ما في السرديات المؤلفة في عصر التدوين ــ على اختلاف صنوفها وطرق كتابتها ـ من تقاليد فنية، يدلل على أن هناك تاريخا طويلا من الممارسة السردية استقرت صورته في القرنين الأول والثاني للهجرة. ومن أهم تلك التقاليد، اللاواقعية التي اعتاد العرب استعمالها في أنواع الكتابة السردية للواقع، وهي تتوزع بين الأخبار والحكايات والمقامات والقصص والنوادر والرحلات والمنامات والسير، فضلا عن النصوص التي هي غير أدبية في التاريخ والفلسفة، وفيها نلمس توظيفا للسرد بكل أبعاده. حتى إذا وصلنا إلى السرديات العربية في العصر الوسيط وما بعده وجدنا اللاواقعية تقليداً مهماً من التقاليد الفنية العربية دون أدنى ارتياب أو استغراب مما فيها من اللاعقلانية. وقد ترسخت اللاواقعية تقليدا في غالبية ما سرده وهب بن منبه من حكايات استند فيها إلى ما جاء في القرآن من قصص عن خلق الأرض والسماء، وسير الأنبياء وأحوال الإنسان والأشياء، موظفاً مرجعياته الدينية التي خبر فيها الكتب السماوية للديانات الأخرى كاليهودية والنصرانية، فضلا عن الديانات الوثنية الوضعية، فكان أمامه في تمثيل اللاواقعية في سرد حكايات أقوام أو قصص أنبياء، ورد ذكرهم في القص القرآني، خياران: إما أن يستعمل التخييل التاريخي في التأويل، مستشهدا بالآيات والأحاديث القدسية والنبوية والأشعار والأمثال، أو يوظف التخييل إلى أبعد حدوده اللاواقعية وذلك حين يتحدث عن واقع لم يصوره القص القرآني. ولا غرابة في أن يرى العرب في ما هو لا واقعي واقعية أكيدة حد الاعتياد. وبسبب ذلك كانت تصورات النقاد العرب القدماء البلاغية للتخييل، لا تخرج عن كونه مجازات واستعارات تجعل الاعتياد طبيعيا على اللاواقعية نظرا وإجراء وكأن التخييل هو الواقعية. بمعنى أن التخييل هو الأداة التي بها يصور الحكاء الواقع، سواء في الحكايات الأدبية أو في المرويات التاريخية. وصحيح أن التخييل جزء من نظرية أكبر هي المحاكاة بمعناهما الأفلاطوني والأرسطي، بيد أن الناقد القديم أعطى للتخييل اهتماماً كبيراً فكانت اللاواقعية تقليدا راسخا لا في السرد، بل في الشعر ونقدهما أيضا.
وهم إذ استعلموا كلمة النثر أو المنثور أو المرسل ولم يستعملوا الروي أو القص أو السرد فليس لأنهم لم يعرفوا الكلمة، بل هي متداولة ووردت في القرآن الكريم ولها في المعاجم العربية معان ودلالات كثيرة، بل لأن التقاليد التي يحتكم إليها الناقد في تحليل الشعر على تعدد أغراضه، تناظر تلك التقاليد التي خضع لها في تحليل النثر الذي كانت قد استقرت أنواعه هو الآخر، وغدت تخييلية الجملة النثرية كالجملة الشعرية بكل متعلقاتها التعبيرية كالاستعارة والنسج والصناعة والصياغة والنظم والمطابقة والتكرار والتجانس والبيان، إلخ.
وما زال كثير من السرديات الحداثية وما بعد الحداثية موضع تجريب وإنضاج في اتجاه وضع المزيد من الأطروحات في السرد غير الطبيعي.
ولا يعني ذلك أن ممارسة الشعر كممارسة الحكي أو القص، بل الأولى مقدمة على الثانية بمحدودية مجالاتها المقيدة بالوزن والقافية وبفاعلها المعرَّف بأنه شاعر أو ناظم، بينما ظلت ممارسة الحكي متسعة المجالات ومتنوعة فتعددت تسميات ممارسه، فسُمي بالناثر والكاتب والإخباري والحكاء والقاص والمؤلف وغيرها. ومهما كانت اللاواقعية مهيمنة على الأحداث السردية وتوجه البطل والشخصيات الأخرى وتؤثر في مصائرهم، فإن المتلقين يتقبلونها بوصفها أقوالا يسردها حكّاء ولا مجال للشك في ما يقوله لأنه مثل الشاعر يقول ما هو بلاغي وعلى السامع أن يؤول ذلك تأويلا منطقيا يوصله إلى المغزى الواقعي من هذا الكلام البلاغي.
وقد استمر السرد القديم في السير على تقليد اللاواقعية في العصور اللاحقة فاستحضر الكتّاب كثيرا من أساليبها في مصنفاتهم. وقد استعاد كتّاب السرد العربي في العصر الحديث، لاسيما في عصر النهضة هذا التقليد بيد أنهم تأثروا أيضا ببواكير ما ترجم من قصص وروايات روسية وفرنسية وإنكليزية، وعمد أغلبهم إلى مفارقة اللاواقعية وصاروا يتبعون الواقعية بوصفها مذهبا أدبيا له أهميته في السرد الغربي. لا إنكار لأهمية السرد الواقعي في تصوير الحياة العربية، لكن مجال التبني للواقعيات الغربية كان كبيرا بينما انحسرت لا واقعية السرد القديم وضاعت فرصة الاستمرار على هذا التقليد. وعلى الرغم من ذلك، فإن للسرد غير الواقعي حضوره الذي يجعله ذا سيرورة لا انقطاع فيها ولا اضمحلال، فاتحا مجالات كبيرة للإفادة منه. وهذه الإفادة من اشتغالات السرد القديم لاسيما في تقليد اللاواقعية هو ما يبحث عنه اليوم منظرو علم السرد غير الطبيعي باحثين عن تطبيقاته في كلاسيكيات السرد الغربي في العصور الوسطى وعصر النهضة والعصر الحديث.
وما زال كثير من السرديات الحداثية وما بعد الحداثية موضع تجريب وإنضاج في اتجاه وضع المزيد من الأطروحات في السرد غير الطبيعي. وإذ لم يقف أي ناقد أو منظر منهم عند سردنا القديم فلأنه لا يعلم ما في هذا السرد من غنى، يضيف إلى تنظيراتهم الكثير وربما يعزز النظرية ويحقق الأقلمة بين سرديات الشرق القديم عموما والعربية القروسطية تحديدا. ولعل بيروقراطية النقدية العربية بمفاهيمها القارة واستشراقية النظرة الغربية وأحادية اتباع تقاليدها، قد أدت إلى أن يتبنى السارد العربي كثيراً من المذاهب والتيارات والنظريات المقبلة من الغرب. ولعل هذه الاتباعية تتضح جلية في ما تبناه الأدباء والنقاد العرب المعاصرون من صور الواقعية الغربية كالنقدية والاشتراكية والسحرية والجديدة، وما فيها من منظورات جمالية لمفكرين انطلقوا في التنظير لتلك الواقعيات من حواضن فلسفية ومنظومات أيديولوجية كبرى أهمها وأرسخها الفلسفة الماركسية التي شاعت أفكارها في البلاد العربية ومن بعدها تأتي تيارات وفلسفات تبناها بعض القصاصين والروائيين أو جربوا تبنيها وعملوا من خلال الكتابة فيها على ترسيخ بعض أساساتها. وغدا أغلب الساردين العرب منتمين وملتزمين بمبادئ وأيديولوجيات يمينية ويسارية ذات تطلعات اجتماعية واقتصادية وثورية لصيقة بالواقع ومجريات متغيراته آنية الحصول أو بعيدة المدى. فتراجع تأثير لا واقعية السرد القديم في القصاصين العرب، لكنه ما انتهى أو زال، بل ظل يحضر في كتابات بعض منهم لاسيما أولئك الذين استوعبوا ما في تراثنا السردي من ثراء فني، يتطلب من السارد إدامة الأفعال اللاعقلانية بالأقوال الاستعارية التي فيها تغيب المنطقية ويتحول القارئ من منطقة التلقي الكتابي إلى منطقة التلقي الشفاهي فيكون سامعا. وما أداؤه أو تلبسه هذه الصورة سوى طريقة تجعل منه مشاركا السارد دوره الحكائي عاملا معه على تحول الخطابية القولية إلى تأويل بلاغي يوصل إلى المنطقية التي بها تتحول لا عقلانية الواقع إلى واقعية موضوعية.
كاتبة عراقية