لا تمر لحظة من حياة الإنسان إلا ويكون فيها معرضا للكوارث الطبيعية والكونية، كالزلازل والبراكين والفيضانات، كذلك ما تواجهه المجتمعات البشرية من تفشٍ للأمراض والأوبئة، بحيث تنعدم قوة التفكير في إيجاد الحلول، ويفقد المنطق الإنساني قدرته على مجابهة تلك القوى غير العاقلة. وعلى الصعيد الذاتي فالإنسان أيضا غير محصن من الأزمات ومن الأقدار التي تضعه في مواجهة عنيفة مع الموت.
إن الناجي من الخطر، والذي جرّب الدخول في قسوة الصراع من أجل البقاء، يدرك ما قامت عليه حياته السابقة من زيف وهشاشة، فأصبح متيقظا إلى المناطق الراكدة في أعماقه؛ تلك المناطق التي جعلته أسيرا للراحة والكسل وحجبت عنه ما هو حقيقي، فالوجود العاري وحده من يحفز قوى الحياة، ويعمل على تحرير الإنسان من الأوهام والانفعالات المدمرة، أو كما يسميها سبينوزا بغرائز الانحطاط.
إن الخوف من الكارثة أكثر ضررا على الإنسان من الكارثة نفسها، والفرد الذي يكون واقعا في قلب المأساة يتفاجأ بأن دوافع أولية قد تحفزت من أعماقه جعلته مزودا بميكانيزمات غير متوقعة. بهذا يتحدد مصير الإنسان عند شعوره بذاته إزاء قوة تتحداه، وتجعل وجوده في خطر، لكن على هذه القوة أن تنفذ إلى باطن الذات وجوهرها، حينها تنبثق الطاقات الكامنة من أجل تأكيد الوجود.
تخلق المأساة قدرات استثنائية عند الإنسان، قد تمنحه بعد ذلك نمطا من الوجود الحر، وهذه الحرية تنبثق من الإرادة الخالقة للحياة، وتعلو على جميع الأشكال الزائفة للوجود. من هنا يمكننا اعتبار الفلسفة تجربة شخصية تقود الكينونة نحو شكلها الأسمى في التعالي، والصدمة قد تكون مفتاح التفلسف، لأنها تحرر الإنسان من سجن العدمية وتقوده إلى مغزى عميق خلف الحياة الظاهرة والقائمة على التفكك واللاجدوى. يتضح لنا أن التفلسف وتاريخ الفلسفة برمته هو تاريخ للصراع بين الكينونة والعالم، بكل ما يحويه هذا العالم من أسرار ومجاهيل مرعبة، فالإنسان هو الوحيد الذي يعي وجوده في عالم الموضوعات، وهو معرّض لأن تسحقه آلامه، أو تفتك به تقلبات الطبيعة خارج حساباته العقلية والمنطقية، بالتالي فإن سؤال الكينونة هو سؤال جدير بالمعرفة والبحث الذاتي عن الحقيقة. يقف الفرد منعزلا ومهجورا في ظلام العالم، يصيبه الرعب والقلق، وتمزقه عذابات الوجود، لكن الإرادة تبقى متوقدة دائما في قلب التوتر، وتدفع الإنسان بأن يحفر في أعماق ذاته ليعي أين يكمن المعنى في السقوط والانهيار، أو لينغمس في الكائنات الأخرى بقيم وجدانية أصيلة تخلقها الحرية وتجربة المصير المشترك بين البشر.
عاصفة الأزمات ويقظة الحرية
إن الوعي الإنساني ليس ذلك الشعور أو الفكر الذي يعبر عن سلوكنا وعاداتنا الموروثة أو المكتسبة، ولا معرفتنا البديهية بالأشياء والموجودات من حولنا، وإنما هو عبارة عن تلك الانعطافات الصغيرة أو الكبيرة، وما ترافقه من صدمات تعيد خلقنا من جديد. بعبارة أخرى يمكننا القول إن كينونة الإنسان ليست كينونة متصلة، وإنما مجموعة من الكينونات المنفصلة تموت فيها الذات وتتلاشى مع كل انتقالة زمنية يفرضها الوعي، لتولدعلى أنقاضها ذات جديدة لا تكون متحررة من الذات القديمة بالضرورة، لكنها أكثر نضجا وعمقا. الإنسان محاصر بالموت ومحكوم به، موت البراءة، موت الدهشة، موت الحلم، موت المعنى، موت الروح والعاطفة، لكن رغم ذلك فالإنسان قادر على أن يخلق نفسه في كل مرة وأن يخلق معه الحياة برمتها. يرى الفيلسوف وطبيب النفس الألماني كارل ياسبرز أن الفلسفة تجربة معيشة، ويمكن لأي شخص أن يتفلسف انطلاقا من ماهيته الوجودية التي تتيح له الإمكانية في الحرية، إذ يرى ياسبرز أن كل إنسان معرض لليأس والمرض والذنب وغيرها من أنواع المعاناة التي يكابدها الإنسان في حياته، وهذه ما يطلق عليها بالمواقف الحدية أو النهائية للوجود، وهذه المواقف التي تنشأ من تلك الأزمات التي قد تقود الإنسان إلى مرحلة التحطيم، ولا يقصد ياسبرز التحطيم بمعنى الانهيار أو الموت، وإنما تلك الهزة التي تصيب الفكر، والتي تؤدي إلى خلق الوجود الفردي على أنقاض الآلام والأوجاع، ثم بعدها تأتي مرحلة العلو أو التجاوز وهي المرحلة التي تختار فيها الذات الجديدة العيش بحرية تامة متعالية عن كل عذابات وآلام الماضي، وعن كل قيد كان يكبل حريتها. إن الطمأنينة والسعادة وراحة البال ربما تجعل الإنسان يرسف في أغلال العبودية، أما عاصفة الأزمات التي تعصف بالإنسان إذا توفرت لها الفرص المتاحة من دهشة ووعي وشك، فإنها ستوقظ فيه وجوده الحقيقي، وهذا الوجود هو وجود باطني يحيا في أعماق النفس وأسرارها ولا يخضع أبدا للتفسيرات العلمية والتجريبية.
إن العاصفة التي توجه لنا أسلحتها المرعبة وتجعلنا نسقط في أعماق الهاوية، تكشف لنا عن ضعفنا أمام إرادة الموت الساحقة، لكنها في الوقت نفسه توقظنا من سبات طويل، إنها يقظة الحرية، وروحها التي تعلو على الزمان.
يضغط السر على وجود الإنسان، ويجعله أسيرا لعزلته، لذلك يقترح مارسيل أن الرابط الذي يتم بيني وبين الآخر يكون عن طريق تجربة معينة تنشأ من مشاركتنا في المعاناة نفسها، فالشخص الذي انفتح عليه ربما كانت له طفولة تشبه طفولتي، وله اهتمامات فريدة مثلي، وإنه مثلي معرض للألم والذنب والموت.
الحرية والمصير المشترك
إن الذات التي بلغت بها المعاناة مبلغا عظيما ترى نفسها متفردة وحرة، بعد أن تهاوت في داخلها عوالم قديمة وقامت على أنقاضها عوالم جديدة، لذلك عادة ما تكون العزلة ملاذا يبعث السكينة في النفس عن طريق التأمل والرؤى الواهبة لمعنى الحياة، فتتيح للإنسان أن يبدع، وأن يفهم ذاته أكثر، لكن على الرغم مما توفره العزلة من أصالة وتميز عن الآخرين، إلا أن هذه الذات تتوق للخروج من عزلتها وأن تشارك أسرارها وتأملاتها مع ذوات أخرى، فمعرفة الذات معرفة ناقصة دون وجود الآخر. يقول الفيلسوف الوجودي المؤمن غابرييل مارسيل: «عندما أقول أنا موجود» فأنا أقصد بلا شك شيئا إضافيا، فأنا لست موجودا فقط لنفسي، بل إنني أظهر لنفسي وأتعرف عليها من قبل الغير». إن الحرية هنا شرط أساسي للتواصل مع الآخر، فالإنسان يتجه إلى العالم وإلى الآخرين كرغبة حقيقية في الوجود، وليس كرغبة في التملك. هناك العديد من العوائق التي تمنع الاتصال مع الآخر، ومن أهمها الشعور بالاغتراب الذي يعتري الذات وسط الحشد أو الجماعة، وما يرافق هذا الشعور من مشكلات نفسية واجتماعية. يرى مارسيل أن المشكلات مهما كانت صعبة وعسيرة، فإنه يمكن حلها عن طريق تجزئتها وتحليلها أو بواسطة التجربة والفكر الموضوعي، وبالتالي تنفصل المشكلات عن فردانية الشخص ويصبح الموقف منها جماعيا. لكن ما يحيط بالإنسان ويضغط على وجوده هو السر أو اللغز، وهو موقف فردي وربما يكون باطنيا، لكنه لا ينفصل عن الحياة وتفاصيلها اليومية. فالخير والشر والحقيقة والعدالة والظلم والموت، أسرار ذات وحدة متكاملة لها رؤى فردية للعالم ومصير الإنسان، وغالبا ما ترتبط بمشاعر ميتافيزيقية تعمل على توحيد البشر، وتعزيز مبدأ الأخوة الإنسانية في العالم، وقد نرى تلك المشاعر متجسدة في الأزمات الجماعية، ويمكن التماسها على النطاق الفردي في بعض الحالات. إن الفرد لا يزال حاملا لبعض الطاقات الكونية أو الروحية، وهو نفسه يشعر بغموض مفارقتها، لذلك فالوجود لا يمكننا أن نكشف عنه بالوعي أو الفهم، كما يذهب مارسيل، بل بتجربة فريدة يضيئها السر الذي يدعو للمشاركة.
يضغط السر على وجود الإنسان، ويجعله أسيرا لعزلته، لذلك يقترح مارسيل أن الرابط الذي يتم بيني وبين الآخر يكون عن طريق تجربة معينة تنشأ من مشاركتنا في المعاناة نفسها، فالشخص الذي انفتح عليه ربما كانت له طفولة تشبه طفولتي، وله اهتمامات فريدة مثلي، وإنه مثلي معرض للألم والذنب والموت. وعادة ترتبط تلك المشاركة بالضعف، لكن هذا الضعف يبدل طبيعته عندما يعقل كمصير، وكحرية تؤكد نفسها. إن السر في أعماق الفرد هو من يدفع الحرية لصهر الحاجز بين الأنا والآخر، عن طريق إرادة المشاركة التي تنقذ الإنسان من الغموض الخالص. كما أن التقبل ليس أن نملأ فراغا بحضور غريب، بل أن نجعل الآخر يشارك في نوع من الامتلاء، أو في واقع معين يصل من الذات إلى الآخر. وهنا تعلن عن الأنا عن نفسها كحرية وقدرة خلّاقة. ويذهب مارسيل أن الحرية لا يمكن تفهم إلا في نطاق التآلف بين الذوات، فمن يرتبط بالآخر لا يقيده، بل يحرره أيضا من نفسه.
نلاحظ أن منبع الحرية عند الفيلسوفَين ياسبرز ومارسيل هو تجربة باطنية أو روحية، تتمثل عند الأول بالمواقف الحدية أو بالتحطيم، وعند الثاني بالسر أو اللغز، غير أن كارل ياسبرز وجد أن الحرية تحقق نفسها في العلو وفي ارتقاء الوعي الإنساني إلى مستويات بعيدة وغامضة، دون أن يهيئ لها واقعا فعليا، أو أرضية اجتماعية، عكس مارسيل الذي وجد في الحرية المقذوفة من قلب السر الإنساني تجليات إلهية توحد البشر ومصائرهم على كوكب الأرض.
كاتب عراقي