آن بومانور عايشت معظم الأحداث الممتدة من الحرب العالمية الثانية حتى ما بعد استقلال الجزائر. ذلك يشمل أيضا متابعتها لما كان يحدث في الهند الصينية من ثورات. الكتاب الذي يروي سيرتها يدقّق في تفاصيل عملها النضالي (هذا إن ظلّت خيباتها المستمرة تعني شيئا لكلمة «نضال») في المقاومة الوطنية الفرنسية ثم لاحقا، في الثورة الجزائرية. من ضمن ذلك حياتها الشخصية، غرامياتها وزيجاتها، تلك التي أسفت، في ختام حياتها، على إحلالها محلا هامشيا.
نضالها اقتضى منها أن تعيش بعيدة عن حبّها الأول، وعن أبيها وأمها فقد كانت طفلة حين التحقت بالثوار، أثناء الاحتلال الألماني لفرنسا، وبعيدة عن أبنائها لانخراطها في مقاومة الاحتلال الفرنسي للجزائر. كانت تحركها روحها الثورية على الدوام، كما أنها لا تريد أن تكون «لا أحد» كما تقول. ورغم أن آمالها ظلّت تخيب بعد كل حلم، إلا أنها ظلّت تعاود الانضمام إلى الثوار، كما إلى الأفكار التي تظهر لها نقية صافية. ولم تكن تكتفي بالحدّ القليل من الانتساب الحزبي أو الوطني أو العدالي، بل كانت تسعى إلى اقتحام المخاطر. من ذلك أنها، هي الضئيلة الجسم والصغيرة السنّ، قالت إنها تريد أن تحارب، مثل محارب حقيقي، لا أن تكتفي بنقل الرسائل السرّية.
من أحلامها التي انكسرت رؤيتها، أثناء عملها في المقاومة لشارل ديغول، «كان يجرّ فرنسا أمامه، بخطواته العملاقة، ولم تستطع إلا أن تنظر نظرة عبادة إلى هذا البورجوازي، الورع والعملاق، وليذهب الصراع الطبقي إلى الجحيم». كانت شيوعية آنئذ، وكتبت شعرا وصفت فيه ذاك اللقاء الخاطف مع القائد:
«ما كدت أنظر إليه
حتى ارتدّ على عقبيه،
في صمت ثقيل الوطأة،
كأننا أمام كارثة».
لكن أنيت، وهذا اسمها في الكتاب، وهو واحد من أسماء سرية كثيرة، لم تلبث أن غيرت رأيها بالرجل الذي كان قد سحرها. لا يلزمها وقت طويل حتى ترى كيف يكون القادة وهم خارج السلطة، وكيف سيصيرون بعدها. كان ديغول يناور الثوار الجزائريين، مطلقا عليهم أسئلة عن رغبتهم بالاستقلال ليسوّف الوقت، ولجعلهم يتنازعون في ما بينهم. قادة الثورة الجزائرية، الذين عرفتْهم أنيت عن قرب لصيق إذ عاشت بينهم لسنوات، أسرعوا إلى إضاعة الانتصار الذي تحقق لهم بالقتال والكفاح. كانت تقاوم الحكومة الفرنسية معهم لأنها جعلت من سجونها مراكز للتعذيب، لكنها لم تلبث أن اكتشفت أن جبهة التحرير الوطني تمارس التعذيب أيضا، حيث «لا أحد يناضل من أجل الاستقلال وحده. الجميع يناضلون من أجل السلطة». وهذا التنازع على السلطة أطاح بكل ما بُذل لقيام دولة ذات سيادة سريعا ما تحوّلت «ولمدة طويلة جدا، عقود، إلى نظام عسكري».
كانت تقسّم مَن هم حولها بين أوفياء خلّص، ومتعاملين يخفون عمالتهم. كما كانت تبحث عن المعدن الذي جبلت منه الشخصيات التي عرفتها وعاشت بينها. ومثلما عرفت قادة الجزائر، وكانت شديدة القرب منهم إذ عُيّنت وزيرة للصحة الجزائرية، تعرفت على المناضلات الجزائريات، في زمن ما قبل الاستقلال، حبيسات السجون الفرنسية. تروي مثلا وهي مسجونة معهن كيف اهتزت نظرتها تجاه جميلة بوحيرد، رغم إقرارها بشجاعتها وقدرتها على المواجهة، إذ راحت بو حيرد تسأل إن كان الديك الرومي الذي جرى تهريبه للسجينات لحما حلالا، وإن كان العاملون في الفرن مناسبين للطبخ الحلال.
في إحدى صفحات الكتاب تقول مؤلّفته، إن ما فعلته أنيت، في واحد من خياراتها، «كان صائبا.
ربما لا يكون القانون في صفّها، لكن العدالة معها». وفي إقامتها في الجزائر ونضالها، قبل ذلك، لنيل استقلالها، تتساءل مؤلفة الكتاب: «كيف أن أنيت تقاتل من أجل بلد لا تعرف عنه شيئا! ربما هي تقوم بذلك ليس من أجل بلد، بل من أجل مكافحة البؤس والظلم. هي التي أمضت أكثر سني حياتها عضوا في أحزاب وحركات نضالية وكفاحية تقول، إن السياسة هي في آخر سلّم اهتمامها. ولم تكتشف هذا عند انتهاء تجاربها، بل كانت كذلك على الدوام، إذ لم يتوقّف بحثها عن الخلل في كل ما عملت متفانية لأجله، حتى إبان انغماسها في الأدوار والتجارب التي مرّت بها. ذلك كان يضعها في التضاد مع معتقدها أحيانا، بل غالبا، فرغم تضادها مع كل ما هو ديني، راحت تنظر إلى الكنائس والأبراج المبتورة بعد القصف الذي حلّ بإحدى المدن وتفكّر، كما لو أن أحدا قطع فخذها هي.
« ملحمة أنيت» كتاب روائي وسِيَري وتاريخي توثيقي في وقت واحد. أمكن للكاتبة أن تجمع أحداث قرن بكامله (عاشت أنيت، أو آن بومانور ما ينوف قليلا عن الستة وتسعين عاما) وبكل ما جرى في هذا القرن من أحداث وتفاصيل دالة على التحولات السياسية والفكرية التي عصفت به. وإن أضفنا كل هذه المعرفة إلى الحياة الشخصية لأنيت، وميل الكاتبة إلى إدخال الشعر في نسيج الكتاب الموصوف بروائيته ووثائقيّته، عرفنا أي جهد كان على الكاتبة بذله ليظل سردها سلسا ومتّصلا ومحفّزا على القراءة. بالطبع لم يكن ذلك ليُنقل بكامل روعته لولا ترجمة سمير غريس، معرّفنا على أدب ألمانيا وثقافتها.
كتاب أنّا فيبر «ملحمة أنيت» صدر عن «دار الكرمة» بترجمة سمير غريس في 282 صفحة- لسنة 2023.
كاتب لبناني
“القدس العربي”