لا شك أن النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط قد انحدر إلى أدنى نقطة منذ نهاية الحرب الباردة. وبينما كان هذا النفوذ قد وصل إلى ذروته بغزو العراق عام 2003 وتحويله إلى مستوطنة عسكرية، تحت سمع وبصر روسيا والصين والعالم كله، بما فيه الأمم المتحدة، فإن السنوات الأخيرة سجلت انسحاب القوات الأمريكية من العراق وسوريا وأفغانستان إلى درجة أن هذه الانسحابات أثارت علامات استفهام بشأن الدور الذي تريده الولايات المتحدة لنفسها في المنطقة، في الوقت الذي تحولت أولوياتها الدفاعية من الشرق الأوسط إلى شرق أوروبا، بتوسيع حلف الأطلنطي شرقا، وإلى جنوب شرق آسيا، بإقامة تحالفات دفاعية جديدة، لغرض حصار. في هذا السياق تحاول الإدارة الأمريكية الحالية العمل على إزالة كل ما يعرقل المجهود الاستراتيجي للحلف في أوكرانيا، أو يعرقل احتمالات الانتصار في مواجهة مع الصين.
وخلال الفترة منذ عام 2017 حتى الآن طورت واشنطن وتل أبيب صيغة لإقامة نظام للردع العسكري الإقليمي في الشرق الأوسط، يضم دولا عربية وغير عربية، يتم ترويجه بوسائل مختلفة دبلوماسية واقتصادية وعسكرية، تحت عنوان رئيسي هو «إقامة نظام مشترك للدفاع الجوي والصاروخي» يبدأ باستهداف القوة الجوية والصاروخية الإيرانية، التي تشمل أيضا نظم التسليح المسيرة، ذاتية القيادة، غير المأهولة بطواقم بشرية. وتأمل واشنطن أن يتعاون في مسؤوليات نظام الردع المقترح إسرائيل والدول العربية واليونان، وربما الهند في مرحلة تالية. ونظرا لأهميته الاستراتيجية، فإن الولايات المتحدة تخشى أن ينعكس تفاقم الوضع في الضفة الغربية سلبا على هذا المشروع. ومن ثم فإن الحملة الدبلوماسية الأمريكية في المنطقة منذ بداية العام الحالي، تستهدف في الأساس إنقاذ مشروع الردع العسكري المشترك، لأن تضاؤل فرص تحقيقه يعني توسيع ثغرة تمدد النفوذ الروسي والصيني، وزيادة الأعباء على الولايات المتحدة، التي تريد تحرير مجهودها الاستراتيجي من أعباء القضايا الفرعية والتركيز على المواجهة الشاملة مع الصين وروسيا، وهي المواجهة التي تستخدم فيها واشنطن على أوسع نطاق أسلحة العقوبات التجارية والتكنولوجية والاستفزازات العسكرية.
سوق السلاح والنظام الأمني
يعتبر إقامة نظام للردع العسكري الإقليمي هو المدخل الرئيسي للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، التي تستهدف استعادة نفوذها وحماية مصالحها الاستراتيجية على المدى الطويل. وتتمثل هذه المصالح في تأمين إمدادات النفط للمعسكر الغربي، وحماية أمن إسرائيل وضمان تفوقها النوعي على جيرانها، والمحافظة على السوق الكبيرة لصادراتها العسكرية، وحماية أمن الممرات البحرية الحيوية التي تربط الشرق بالغرب، وإدارة الحرب على الإرهاب، وإغلاق الأبواب أمام النفوذ الصيني والروسي. ومن ثم فإن تقييم نجاح واشنطن في الشرق الأوسط يتوقف على الانجازات التي تحققها السياسة الأمريكية في هذا الاتجاه.
ولا شك أن إقامة نظام أمريكي- إسرائيلي للردع العسكري الإقليمي في الشرق الأوسط يحقق مصالح التجمع العسكري- الصناعي الأمريكي، من حيث أن هذا النظام يساعد على ترويج مبيعات الأسلحة التي يتضمنها، مثل أجهزة ووسائل الإنذار المبكر، وأنظمة الرادار والصواريخ والطائرات، وأنظمة الأسلحة المضادة للأسلحة المسيرة الجوية والبحرية والجوية، ومنها أسلحة حديثة مثل الأسلحة الحرارية، أو أسلحة الليزر. فهل كان وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن في زيارته الأخيرة للشرق الأوسط يحمل أفكارا بشأن ترويج خطط دفاعية لزيادة مبيعات الأسلحة الأمريكية في المنطقة؟ من المؤكد أن الإجابة هي «نعم»؛ ذلك أن صناعة السلاح الأمريكية رغم إنها لم تعد لديها طاقات فائضة للتعاقد على أسلحة جديدة، حيث تنهمر عليها طلبات للتوريد إلى أوكرانيا وتايوان، ودول حلف شمال الأطلنطي، بما فيها ألمانيا واليابان، تطمح إلى المزيد من التعاقدات خصوصا في منطقة الشرق الأوسط. ورغم سخونة سباق الأسلحة التقليدية في حرب أوكرانيا، وفي الحرب المحتملة في بحر الصين الجنوبي أو بحرها الشرقي، فإن تطوير أسلحة نووية تكتيكية، وأسلحة جديدة مثل أسلحة الليزر وأنظمة التسليح الذاتية الحركة، أصبحت تستحوذ على نسبة مهمة من طاقات مراكز البحوث والتطوير، وكذلك طاقات إنتاج الصناعات العسكرية الأمريكية. وتعتبر منطقة الشرق الأوسط ميدانا رئيسيا لتطوير أنظمة دفاعية مضادة لأنظمة الأسلحة المسيرة، البرية والبحرية والجوية، خصوصا تلك التي تنتجها وتستخدمها إيران، التي انتشرت أيضا من الخليج والشرق الأوسط إلى ميدان الحرب في أوكرانيا، ويتم تطويرها تكنولوجيا على ضوء تلك الحرب. ومع ذلك فإن زيارة وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن للشرق الأوسط، التي ترافقت أيضا مع زيارة رئيس هيئة الأركان المشتركة للقوات المسلحة الأمريكية الجنرال مارك ميلي، تحمل في طياتها مهمات ودلالات أكبر من الجانب التجاري المتمثل في ترويج مبيعات الأسلحة.
الرسالة الأولى التي توجهها الولايات المتحدة من خلال زيارة وزير الدفاع ورئيس الأركان، هي استعدادها لمواجهة تصاعد الهجمات الإيرانية على القاعدة العسكرية الأمريكية في «التنف» التي يقيم فيها حوالي 900 عسكري أمريكي بأسلحتهم ضمن قوة الحرب على داعش، وتحميها من الخارج قوات كردية تشرف الولايات المتحدة على تدريبها وتسليحها وتمويلها، لتكون خط الدفاع الأول عن القاعدة الأمريكية. وعلى الرغم من أن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب كان قد قرر إنهاء مهمة القوات الأمريكية في سوريا، وسحبها تماما في عام 2018 إلا أن القيادة العسكرية أبدت تحفظاتها على القرار، ما أدى إلى إبطاء تنفيذه، واستبقاء القوة العسكرية جزئيا في شمال شرق سوريا، لغرض حماية آبار البترول في تلك المنطقة، إلى جانب مهماتها الأخرى التي تقوم بها من أكثر من 8 سنوات. وقد لوحظ في الآونة الأخيرة تصاعد وتيرة الأنشطة العسكرية حول قاعدة «التنف» التي تعرضت خلال الشهرين الأخيرين لهجمات بطائرات الدرونز الإيرانية، كان من أهمها هجمة بثلاث طائرات في شهر كانون الثاني/يناير، قالت القوات الأمريكية إنها أسقطت اثنتين منها، في حين أفلتت الثالثة ونجحت في قصف القاعدة. العملية الثانية كانت في الشهر الماضي، وأسفرت عن إصابة 4 جنود أمريكيين، وإحداث أضرار مادية. وتتوقع القيادة الميدانية الأمريكية في العراق، وقيادة المنطقة المركزية أن تزيد وتيرة هذه الهجمات في الأسابيع والأشهر المقبلة. ويبدو أن أحد أهداف زيارة الجنرال ميلي للقاعدة هو طمأنة الجنود الأمريكيين، حتى لا تتدهور الروح المعنوية هناك، خصوصا وأن دور القوات الأمريكية في العراق وسوريا يحوطه كثير من الغموض، وعدم اليقين بشأن المستقبل. وتؤكد الولايات المتحدة أن قواتها لا تقوم بأدوار قتالية في العراق، لكنها تحتفظ لنفسها بحق الدفاع عن النفس إذا هوجمت. أما بالنسبة للقوات الموجودة في قاعدة التنف فإنها تقوم بمهمات في مجال الحرب على الإرهاب.
الرسالة الثانية تتعلق بتكثيف التنسيق الميداني لمواجهة زيادة كثافة وانتشار القوات الإيرانية في سوريا، خصوصا مع سحب روسيا كميات كبيرة من الأسلحة والذخائر والقوات من قاعدة طرطوس البحرية، وقاعدة حميميم الجوية، والقوة العسكرية التي تقوم بدور الشرطة العسكرية في مناطق الصراع في إدلب، وتوجيهها إلى أوكرانيا. وقد شهد الأسبوع الأول من الشهر الحالي نقل كمية ضخمة من الأفراد والمعدات من القواعد العسكرية الروسية في سوريا إلى أوكرانيا، ورصدت تقارير البحرية التجارية تحميل سفينة روسية بكمية ضخمة من الأسلحة والذخائر في ميناء اللاذقية، توجهت بعد ذلك إلى البحر الأسود. ومن أجل المحافظة على التوازن العسكري في سوريا لصالح الرئيس بشار الأسد، فإن الدور الإيراني يتسع تدريجيا لملء الفراغ الجزئي، الذي قد تتركه وراءها القوات والأسلحة الروسية. هذا لا يعني انسحابا روسيا من سوريا، لكنه يعني أن روسيا في عملية إعادة تنظيم قواتها بين الشرق الأوسط وأوكرانيا، تحتاج الآن الى كمية من الأسلحة والذخائر والأفراد في أوكرانيا أكثر مما تحتاج في سوريا، لكنها لا تريد نشوء فراغ أمني قد يؤثر سلبا على التوازنات الحالية في سوريا. ومن أجل الحيلولة دون ذلك، يبدو لنا ان هناك تفاهما ضمنيا بين روسيا وإيران على أن تقوم القوات الإيرانية أو القوات التي تعمل معها بالوكالة، على القيام بمهمات ملء الفراغ. إضافة لذلك فإن التغيير التكتيكي الكبير المحتمل، يتمثل في سعي إيران لإقامة منظومة دفاع جوي متكاملة في سوريا، تعمل في المستقبل القريب، كخط دفاع أمامي في مواجهة أي هجمات جوية محتملة بواسطة إسرائيل، وتوفير غطاء جوي لوجودها العسكري المباشر وغير المباشر في العراق وسوريا ولبنان. ونظرا لأن إسرائيل تعتبر هذا تهديدا خطيرا لهيمنتها الجوية الإقليمية، فإنها تبادر إلى ضرب أي منشآت عسكرية جديدة في سوريا خشية أن تتمكن إيران من إقامة نظام الدفاع الجوي الذي تريده. وقد كانت الضربة الجوية التي نفذتها الطائرات الإسرائيلية في مطار حلب أخيرا، وأسفرت عن خروج المطار من الخدمة، هي جزء من المجهود الذي تقوم به إسرائيل، لحرمان إيران من مزايا بناء نظام للدفاع الجوي على حدودها، خصوصا وأن إيران طلبت من روسيا نظام الدفاع الجوي المتطور إس- 400 بعد أن بدأت تسلم سربين من الطائرات الروسية المتطورة طراز سوخوي- 35.
مقومات النفوذ الصيني والروسي
يمكننا أن نرصد باستخدام مؤشرات كمية وكيفية، أن العام الأول للحرب الأوكرانية سجل زيادة في نفوذ كل من روسيا والصين في المنطقة العربية عموما، وفي دول الخليج على وجه الخصوص، ربما على العكس من حسابات واشنطن أو خارج توقعاتها. وقد جاءت هذه الزيادة في النفوذ على عكس رغبة الولايات المتحدة، وعلى الرغم من الضغوط التي استمرت في ممارستها، والتي وصلت أقصاها في صيف العام الماضي. ومع ذلك فإننا يجب أن نؤكد هنا أن فشل الضغوط الأمريكية كان نتيجة التقاء مصالح دول عربية وشرق أوسطية مع كل من روسيا والصين في مجالات رئيسية، مثل أسعار النفط، وتوفير إمدادات الغذاء، وإقامة مشروعات بنية أساسية مهمة بالتعاون مع أي منهما، والحاجة إلى تنويع مصادر السلاح.
ونشير هنا بشكل خاص إلى أن الصين هي أكبر سوق لصادرات النفط السعودي، كما أنها سوق رئيسية للنفط العراقي. وأن مصر تبني أولى محطاتها للطاقة النووية بالتعاون مع روسيا، وأن السعودية وهي تسعى إلى تطوير البنية الأساسية للاتصالات والموانئ وغيرها تستعين بمساندة تكنولوجية صينية، تجلت مؤخرا في عقد اتفاق تعاون لتطوير نظام 5G بين الشركة السعودية للاتصالات وبين شركة هواوي التي تمثل الهدف الأول لضربات العقوبات الأمريكية. كما أن الإمارات عقدت صفقة عسكرية مهمة أخيرا مع الصين، يحصل بمقتضاها سلاح الجو الإماراتي طائرات تدريب صينية وأسلحة أخرى. هذا التوسع في علاقات التعاون بين كل من الصين وروسيا ودول الشرق الأوسط لا يقتصر على الدول العربية فقط، وإنما يشمل دولا غير عربية منها إسرائيل وإيران. ولذلك فإن محاولة استعادة الولايات المتحدة لدورها السابق في الشرق الأوسط، هي مجرد وهم غير قابل للتحقق، نظرا لأن هناك حقائق جديدة على الأرض تحول دون ذلك. هذا لا يعني طرد النفوذ الأمريكي تماما من المنطقة، فستظل إسرائيل ودول عربية أخرى تتعاون معها، كما تتعاون أيضا مع كل من روسيا والصين. وقد تتعرض علاقات واشنطن بالمنطقة لحالات مد وجزر، لكن وضعها النهائي سيحدث ملامحها نظام عالمي جديد ما يزال في طور التشكل.
“القدس العربي”