على وقع الزلزال المُدمّر الذي ضرب تركيا وسوريا أوائل الشهر الماضي، تقاطر النظام الرسمي العربي على دمشق. وعلى الرغم من أن البعض حاول تغليف الزيارات بطابع إنساني، إلا أنها تأتي ضمن تحركات عربية جرت وتجري من أجل مقاربة جديدة مع النظام السوري.
قد تكون اللحظة الراهنة بما تتطلبه من مواقف إنسانية هي اللحظة الحاكمة، لكن الأبعاد السياسية والإقليمية والأمنية والاستخباراتية والاقتصادية، كلها حاضرة أيضا. وقد برر البعض اللقاءات بالنظام السوري بالقول، إنه لا يمكن تكرار الخطأ التاريخي الذي وقع فيه العرب، حينما تم تجاهل ما جرى في العراق بعد الاحتلال عام 2003 فأصبح منطقة نفوذ إيراني. وعليه فبعد مرور عقدين من الزمن على تلك الخطيئة، لا يمكن أن تُترك سوريا لإيران أيضا، بحيث تكون موضع نفوذ لها بدرجة كبيرة. آخرون برروا اللقاءات مع النظام في دمشق بالقول، هناك حاجة سوريّة للدول العربية، مثلما هناك حاجة عربية لسوريا، لأنه في لحظات المصير المشترك كانت دمشق أحد الأعمدة الرئيسية في النظام العربي، بالتالي لا يمكن تركها، ليس بسبب اللحظة الإنسانية الاستثنائية المرتبطة بالمآسي التي تركها الزلزال، وإنما بضرورة عودتها لمحيطها العربي، لأن المصالح الاستراتيجية مرتبطة بهذه العودة وليس باللحظة الإنسانية. النقطة الأخرى المرتبطة باللقاءات العربية مع النظام السوري اليوم، هو أن هناك اتصالات جرت على مدار السنوات السبع المنصرمة بين النظام وأنظمة عربية، ليس على الصعيد السياسي، وإنما على الصعيد الأمني، حيث زار رئيس جهاز الاستخبارات السوري مصر وعواصم عربية أخرى، حاملا معلومات تخص التنظيمات المتطرفة. الأكثر أهمية من ذلك هو أن المرحلة المقبلة تقتضي الحديث عن إعادة الإعمار، وهناك دول عربية تسعى للحصول على عقود لشركاتها.
ومع ذلك فإن التوجه نحو النظام السوري فيه تحديات كثيرة، كما فيه تصورات تؤدي للتعامل مع تلك التحديات. هناك تحد مرتبط بكيف يمكن التوصل إلى تيار عربي جامع يذهب باتجاه النظام السوري. ربما هذا التيار قائم، لكن لا يمكن إغفال الأصوات العربية، التي ما زالت تقول لا للحوار مع النظام السوري، مثل الموقف القطري. كما في المؤتمر الأخير للأمن في ميونيخ، كان هناك موقف عبرت عنه دولة الكويت على لسان وزير خارجيتها، الذي اعترض على ما سماه التزايد في الانفتاح العربي على النظام السوري. وقال بوضوح إن الكويت لا تدعم هذا النهج. إذن هنالك إشكالية ترتبط بكيف يمكن الوصول لحالة التطابق أو الإجماع، لكن بعض الأوساط السياسية العربية، تضع تصورا للتعامل مع هذه الحالة بالقول، إنه يمكن التركيز على التيار الرئيسي العربي السائد الآن، ثم تنقية الأجواء العربية في ما بعد، إذ ربما تكون المراهنة قائمة على التحول من المواقف القُطرية إلى المواقف القومية، أي موقف يصدر عن اجتماعات الجامعة العربية. لكن ماذا بشأن التحديات الأخرى المرتبطة بأدوار الأطراف الخارجية؟ كيف يمكن التعامل مع الخطوط الحمر للولايات المتحدة، بعدم التعامل مع النظام السوري؟ وماذا عن التحفظات الإيرانية والمخاوف من انحسار نفوذها في سوريا؟
برر البعض اللقاءات بالنظام السوري بعدم تكرار الخطأ التاريخي الذي وقع فيه العرب، حينما تم تجاهل ما جرى في العراق بعد عام 2003 فأصبح منطقة نفوذ إيراني
في هذا السياق يراهن البعض على الإرادة العربية بالقول، إن هناك دولا استطاعت في العام المنصرم 2022، خاصة في ملف الحرب في أوكرانيا، من إدراك كيفية الدفاع عن مصالحها الخاصة، وليس الارتهان بالمواقف الأمريكية، التي تجعلها تضغط عليها لعدم التوافق في مواقفها، سواء في ما يخص علاقاتها مع روسيا، أو تخفيض أسعار النفط، أو التعامل مع بعض الصراعات المسلحة. بالتالي آن الأوان أن يكون هناك تجاوز لمرحلة الخلافات البينية العربية، لأن من الواضح أن هناك محاولة من جانب بعض الدول العربية الرئيسية، لتجاوز حالة الاحتقانات وإنهاء الخلافات، حتى مع القوى الإقليمية، فوزير الخارجية المصري زار سوريا وتركيا أيضا، ورئيس الوزراء المصري زار قطر، ووزير الخارجية السعودي قال، إن كل المبادرات وكل المقاربات القديمة فشلت في الإطاحة بالأسد، وفشلت في حلحلة الأوضاع في سوريا. كل هذا يعطي تصورا بأن هنالك تغييرا راديكاليا في المقاربات العربية الرسمية، لكن كيف يمكن تفادي فيتو بعض الأقطار العربية من عودة سوريا للحاضنة العربية؟ هل العودة ستكون قبولا بالأمر الواقع، أم أن هنالك تصورا عربيا لعملية سياسية جديدة في سوريا؟
إن التساؤل الأبرز الذي يجب ان يُطرح هو، ما هدف الدول العربية والجامعة العربية والبرلمان العربي من التطبيع الرسمي مع سوريا؟ هل الهدف هو شرعنة النظام، أم أن الأولوية يجب أن تكون إيجاد حل سياسي جدي، يضمن انتقالا سياسيا حقيقيا في سوريا، ويُنهي الكارثة المستمرة منذ أكثر من 11 عاما؟ يجب أن يكون هذا هو الهدف، هل الهدف هو مظاهرة برلمانية، أم الهدف هو إيجاد حل جذري لستة ملايين لاجئ سوري مشردين في العراء بين تركيا والأردن ولبنان؟ يجب أن يكون هذا هو الهدف. هل الهدف هو عودة زيارات رئيس النظام السوري الى هذا البلد العربي أو ذاك واستقباله بالأحضان؟ أم الهدف إيجاد حل لعشرة ملايين نازح في سوريا؟ يجب أن يكون هذا هو الهدف. هل يمكن حل كل هذه القضايا الإنسانية عالية التكاليف من دون رؤية سلام عربية، من دون مشروع سلام مستقبلي، ومن دون انتقال سياسي حقيقي وجدي في سوريا؟ وهنا ستبرز الحقيقة التي لا بد من قولها بصراحة تامة، هو أن الدول العربية ليست لديها رؤية أو مشروع سلام في سوريا. كما أن النظام السوري لا يريد أي تدخل عربي في مشروع السلام في سوريا. وهذا يعني حتى لو كان التطبيع مع النظام الحاكم في دمشق سيتم غدا أو بعد غد، فلن نشهد أي اختراق في الأزمة الكارثية السورية. كما أن النظام ليست لديه أية إمكانات أو قدرات في هذا المجال، طالما كان هنالك فيتو على سوريا من قبل الولايات المتحدة. وهذا الفيتو لن ينتهي إلا إذا حصل انتقال سياسي جدي. وهنا يبرز دور الدول العربية، إن أرادت ذلك، لنقل سوريا من مرحلة إلى مرحلة أخرى، فيها اندماج حقيقي للمعارضة السورية في نظام سياسي جديد، لكن ماذا عن دور إسرائيل التي يمكن أن تعيق أي حل في سوريا؟
للإجابة على هذا السؤال يمكن القول أن لا أهمية استراتيجية لسوريا الآن في نظر ساسة إسرائيل. إنهم ينظرون إلى سوريا على أنها مقسّمة إلى ثلاثة أجزاء، جزء يقع تحت سيطرة الحكومة، وآخر تحت سيطرة المعارضة، وثالث تحت سيطرة الأتراك. إذن هناك أرضية منقسمة من تلقاء نفسها، لذا لن نرى موقفا إسرائيليا مؤيدا أو معارضا للحل العربي في سوريا، خاصة أن أمريكا الآن تبدو هي صاحبة الرؤية الأساسية. يمكن أن تكون هنالك معارضة إسرائيلية في حالة واحدة، وهي إذا كانت صفقة التساهل مع سوريا من قبل الدول العربية ستمر بموازاة صفقة معينة مع إيران. هنا سنرى التقاطع بين ما هو إيراني وما هو إسرائيلي حول سوريا.
كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية
“القدس العربي”