الاشتغال على اليومي والتعليمي اتجاه في اللسانيات مهم، ويزداد الإقبال عليه اليوم في الجامعات الأوروبية والأمريكية، بينما ما نزال نحن نقتل الوقت في بحوث نظرية في اللسانيات العامة، أو في الاتجاهات اللسانية المختلفة. هذه البحوث وإن كانت مهمة في ترسيخ العلم في مختلف مناوله فإنها تزيد الفجوة عمقا ما بين الجامعة والحياة اليومية.
في مقالنا هذا حديث عن لسانيات تطبيقية جديدة تسمي نفسها «لسانيات السلام الحديثة» ومن أهم أعلامها أستاذ البيداغوجيات في جامعة أنهايم في فلوريدا أندي كارتس، الذي أصدر كتابا السنة الفارطة عنوانه المعرب «لسانيات السلام الجديدة: ودور اللغة في الصراعات». فكرة الكتاب المركزية وهي نفسها فكرة هذا الاتجاه اللساني، أن اللغة هي أهم ما يصنع الحرب والتوتر، وهي أيضا أهم ما يحل السلام بين الأفراد والمجموعات والأمم، ولذلك تميل البيداغوجيا التي تتبنى هذه الفكرة، إلى إعداد معلمين ومكونين يضعون استراتيجيات تسعى إلى ترسيخ خطابات السلام والوئام لدى الناشئة، بدءا من ألعابهم وصولا إلى نصوصهم ولغاتهم وخطاباتهم في ما بينهم.
إن نظرنا في ضوء هذا التوجه إلى المواضيع التي تتلقاها الناشئة في المدارس الابتدائية، أو في الإعداديات ليست جميعها مراجعة ولا مصفاة بهذا المقياس الذي يؤمن بأن علامة لغوية أو غير لغوية كالصورة يمكن أن تثير الشجن، أو السعادة، أو الحقد أو التسامح وتغرسها في نفس الطفل، أو المراهق المتعلم بأيسر السبل وأنها يمكن أن تنحت كيانه وتبني وجدانه بالكراهية أو المحبة.
حين أمرّ أمام مدرسة ابتدائية وأرى الأطفال يتقاذفون بالحجارة، أو يتصارعون إلى حد الإسقاط والإدماء، أعرف أن هناك خطابا للكراهية زرع في الأسرة، أو في الشارع، وأن المدرسة لم تستطع استئصاله بكل ما لديها من أدوات تربوية وتعليمية؛ بل يمكن أن يساورني شك في أن مدرسة لا تصفي وجدان الطفل يمكن أن تؤجج في نفسه نار الكراهية ولا تهذب فيه سلوك العنف. أقرأ في بعض كتب السنة الأولى من التعليم الابتدائي هذا النص القصير: « اصطف التلاميذ أمام القسم. رحّب مدير المدرسة بكل التلاميذ، وسلمت عليهم معلمتهم، ابتسم التلاميذ ودخلوا القسم في نظام». هذا المقطع يبدو في الظاهر نظاميا، بمعنى أنه يرسم للتلميذ دائرة مثلى من التعامل تتمثل في أن يصطف مع أقرانه قبل الدخول إلى القسم، وأن يرحب بهم مدير المدرسة وتسلم عليهم المعلمة. لو حدث هذا في الواقع أي في ما يشهده التلميذ في المدرسة فسيكون مثاليا. رغم أن الاصطفاف لم يعد أسلوبا في الانتظام مقبولا، وليس من المقبول أيضا أن يقدم المدير على أنه في هرم السلطة. هذا تصور هرمي يقرب المدرسة من المعسكرات ويطرد تصورا تفاعليا لا هرم فيه ولا مركز، بل فيه تفاعل بين الأطراف في نطاق مهمات ووظائف تهدف جميعها إلى إكساب التلميذ ألفة ودافعية على الخلق والإبداع.
إن قرأ التلميذ النص المذكور وفهمه، فهذا في رأي القائمين على العملية التعليمية عين النجاح وغايته، والحقيقة أن الأمر لا يتوقف عند مجرح القراءة فالمتعلم إن لم يجد هذا النظام الذي يخبره به النص في الواقع سيغترب عن ذلك الواقع وسيقول له الكتاب غير ما يقوله له الواقع، وستبني له اللغة عالما لا يطابق الواقع ومن هنا تبني اللغة فيه شعورا بالمفارقة بين ما يقال له وما يعيشه.
في البكالوريا (الثانوية العامة) كنا ندرس على أيامنا أديبا أورثتني نصوصه هما في تلكم الأيام، وأنا في شرخ الشباب مقبل على الحياة هذا الأديب هو أبو حيان التوحيدي في أثريه «الإمتاع والمؤانسة» و»الإشارات الإلهية». بت أعتقد اليوم أن الإشكال لم يكن في النصوص، بل في تركيزنا وقتها مع الأديب ومحاولة استجلاء نفسيته من خلال نصه، كان ذلك ضربا من ممارسة التحليل النفسي والاجتماعي من خلال النصوص، وقد كانا منهجي القراءة السائدين وقتها، وهذا ما فهمته بعد ذلك، لأن المدرسين إما أنهم كانوا ينخرطون في هذا المساق المنهجي دون وعي مسايرة للمقرر وإما أنهم كانوا على وعي به ولا يريدون أن يزجوا بنا في المساق النظري. المهم أن كثيرا من كآبة التوحيدي خرجت من نفسه وعششت في أنفسنا، وكان ذلك نوعا من التشبه بالأديب الذي كان يعني لنا الكثير، ويجعلنا نسقط في فخه الرمزي، فتتقاطع شخصيته مع شخصياتنا التي تريد أن تتشبه بالمثقفين حتى إن كانوا من العصر القديم. يقول أبو حيان شاكيا حاله زارعا في أنفسنا بذور القتامة: «إلى متى التأدم بالخبز والزيتون؟ قد والله بح الحلق وتغير الخلق الله الله في أمري أجبرني فإنني مكسور.. لقد أذلني السفر من بلد إلى بلد، وخذلني الوقوف على باب باب ونكرني العارف بي وتباعد عني القريب مني».
إن قرأ التلميذ النص المذكور وفهمه، فهذا في رأي القائمين على العملية التعليمية عين النجاح وغايته، والحقيقة أن الأمر لا يتوقف عند مجرح القراءة فالمتعلم إن لم يجد هذا النظام الذي يخبره به النص في الواقع سيغترب عن ذلك الواقع وسيقول له الكتاب غير ما يقوله له الواقع، وستبني له اللغة عالما لا يطابق الواقع ومن هنا تبني اللغة فيه شعورا بالمفارقة بين ما يقال له وما يعيشه.
هذا خطاب يورث الهم والحزن، ويشحنك على القريب ويُنبت فيك الشك في ذي القربى وتنطفئ شموع الأمل في الحبيب والنسيب، فهل ستبقي بعد هذا شيئا للغريب؟ وفي «الإشارات الإلهية» يقول: «يا هذا! هذا وصفُ غريبٍ نأى عن وطنٍ بُنِيَ بالماءِ والطين، وبَعُدَ عن أُلافٍ له عهدهم الخشونة واللين.. فأين أنت عن غريبٍ طالت غربته في وطنه، وقلَ حظه ونصيبه من حبيبه وسكنه؟» لا يبتعد هذا الكلام عن الأول، رغم أن السياق الذي درسنا فيه النص هو سياق قيل لنا وقتها إنه زهدي نحن من لم نشبع بعد من الدنيا حتى نزهد فيها.
ظل الأمر على حاله في كتب الأدب لتلاميذ هذا العصر فتلاميذ اليوم يدرسون عندنا «شعر الحماسة» تدور فيه اللغة عند الشعراء على تجييش المشاعر وصناعة الحشود المؤيدة للحرب وانتصاراتها، وعلى المدرس أن يشرح معاني الحماسة الحربية. وأقتطف بيتين لأبي تمام في الكتاب المدرسي يقول فيهما: (خَشَعُوا لصوْلتك التي هي عندهم ** كالموت يأتي ليس فيه عارُ// لما فصلتَ من الدروب إليهم** بعرمرم للأرض منه خوار)؛ الموت في الحرب وفق هذا السياق عزة وإباء، عليك أن تحارب وتموت وأنت مرفوع الرأس. هذا كلام يمكن أن يقبل في نسق ثقافي معين، حين يذود المرء عن وطنه؛ لكن أن يكون الموت في أي سياق حربي عنوان عزة فذلك خطاب تكون الحماسة فيه مجانية وتصنع فيه اللغة الحرب، والأجدر بها أن تصنع السلام.
في التوجه الثاني من لسانيات السلام، وهي التي يسميها كورتس لسانيات السلام الجديدة، لا تركز الدراسة على صناعة اللغة لعقلية الحرب أو لأكوان السلام، إنما تختص اللسانيات أكثر بتحليل خطاب الفاعلين السياسيين في العالم ولذلك اهتم الباحث بتحليل خطابات الرؤساء السابقين للولايات المتحدة الأمريكية، بدءا من بوش وصولا إلى بايدن مرورا بأوباما وترامب، وعرّج على دور خطاب باول في إعلان الحرب على العراق والإطاحة بصدام حسين. ما في الخطابات اليومية من كلام متشنج يصل حد التهديد، ومن إرهاب قولي ليس معزولا عن سياقين ثقافيين أساسين هما السياق المدرسي والسياق السياسي بين هذين السياقين تتوزع معطيات ثقافية متنوعة، منها الديني ومنها الأيديولوجي ومنها العرقي، والمطلوب وفق لسانيات السلام ولسانيات السلام الجديدة أن يعي المعلم والسياسي أن للغة الدور المركزي في شن الحرب ونزع الثقة، أو في بناء الثقة ونزع السلاح وخلف هذا الدور المركزي للغة يكمن خبير ووسيط وكاشف هو المعلم والسياسي الأول يعلم الناس كيف يصوغون خطاب الحب لا الكراهية، وكيف يبنون التعليمات على أسس السلام، والثاني يعد بشراً لا مختصين في الكشف عن الأراضي المفخخة، بل في الكشف عن الخطاب المفخخ الذي هو السبب في كثير من سفك الدماء البريئة.
أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية
“القدس العربي”