” الكهف ” فيلم وثائقي سينمائي من إنتاج الدانمارك الوثائقية وإخراج فراس فياض، كتب النصّ أليسار حسن وفراس فياض. طول العمل 1.46.52
تدور أحداث الفيلم في سورية ” ضواحي دمشق الغوطة الشرقية “، وهي إحدى ضواحي العاصمة المعروفة بمزارعها الخصبة وحدائقها الغناء وثمار أشجار المشمش اللذيذة التي تنمو بكثرة هناك، حوّلها نظام الإبادة الأسدي المتعطش للدماء أرضاً جرداء، يحضن حطامَ أبنيتها سكانُها المدنيون.
ففي عام 2016 تعرضت الغوطة الشرقية لحصار جائر، صُنّف كأطول حصار في التاريخ الحديث، ذاق فيه أهلها شتى أنواع القتل والترهيب ومختلف أساليب التعذيب، ضرباً كان أم تجويعاً أو حرماناً من أبسط حقوقهم في الحصول على الدواء والرعاية الطبية التي قد تساهم في إنقاذ الأرواح.
ومن دواعي صناعة الفيلم التعريف بإحدى جرائم نظام الأسد في سورية التي لا حصر لها. وبيان صمود هذا الشعب العظيم الذي ما انفك يساعد بعضه، ويبتكر الحلول لإنقاذ الضحايا، و النموذج الأمثل في هذا الفيلم كان الكادر الطبي الذي أنشأ مشفى متواضعاً بمساعدة السكان المحليين ضمن أنفاق حفروها في باطن الأرض، كي تحميهم مما يجري على سطحها من انتهاكات وتدمير
يسرد سلسلة من المآسي التي حدثت مجرياتها بالفعل، والشخصيات الفاعلة فيها هي شخصيات حقيقية أقحمها استبداد الأسد في سلسلة متوالية من الآلام المتنامية، وتتكامل الصورة من خلال حواريات تلك الشخصيات بما يثير أحاسيس الخوف و العذاب على طرفي النقيض وأحاسيس التحفيز والتفاؤل على الطرف الآخر، فتتعرض الغوطة الشرقية بأكملها لقصف مستمر بمختلف الأسلحة بدءاً بصواريخ الميغ الروسي حليف الأسد وانتهاء بالأسلحة الكيماوية المحرمة دولياً فتجهد الأطفال البريئة علّها تبقي دولتها على قيد الحياة، ويجهد أهالي الغوطة في مساندة بعضهم وحفر الملاجئ الآمنة تحت الأرض، ويجهد الكادر الطبي في إنقاذ أرواح ضحايا الحرب ما أمكن رغم انعدام مستلزمات مشفى الكهف الطبية الأساسية ورغم انعدام الأدوية ونقص الغداء والماء، فيستوفي النسق البنائي للأحداث وحدة المكان والزمان بدءاً بالمقدمة فالوسط في حين أن الخاتمة تكون في مكان ما خارج الغوطة حيث شرّد الآلاف ممن كُتب لهم البقاء على قيد الحياة لكن بعيداً عن أرضهم وخارج منازلهم المغتصبة بما يعمل لدى المشاهدين الإحساس باستمرارية وحشية الأسد التي لا تنتهي، فهي تتبعهم حيثما وُجدوا.
أمّا عناصر الإنتاج الجماعي فتمّت عبر:
1 الشخصيات الرئيسة: الطبيبة أماني والطبيبة سماهر والطبيب، في حين يشارك باقي أعضاء الكادر الطبي بأدوار ثانوية، إضافة لمجموعة من الأطفال الضحايا وأم ثكلى ونسوة مُنِعنَ من العمل إثر ضغوطات اضطهاد المجتمع المحيط بهن، مع بروز واضح لرجال آخرين أدّوا أدواراً ثانوية، سواء كانوا من الكادر الطبي أو من فريق الإسعاف أو من عمال البناء والحفر وأحد رجال الدين المجهَّلين من قبل نظام الأسد بالتعاون مع السلطات الدينية الحليفة له، وتشفّ الحوارات الدائرة بينهم ونوعية اللباس الذي اعتادوا ارتداءه عن واحدة من إحدى شرائح المجتمع السوري المتّصف بتنوع أطيافه وتوجّهاته وعناصره الذهنية ألا وهي تلك الشريحة التي عمد النظام إلى تجهيلها بشكل ممنهج وعبر سنين طويلة بالتعاون مع المؤسسات والسلطات الدينية الحليف الأساس والداعم الرئيس له في سبيل بقائه في سدة الحكم، تلك الشريحة التي تضطهد المرأة وتحرمها وأطفالها من التعليم والحق في العمل وإثبات الذات، بما يساعد على إقصاء عدد كبير من العناصر الفاعلة في بناء الأرض السورية وبما يساعد على تغييب الفكر الحر الخلّاق، فيصبح المظلوم ظالماً، وتصبح الضحية جلاداً، ويضرب المجتمع السوري في عمقه، فلا تقوم له قائمة سليمة، ولا يكون له بنيان قادر على دحر المعتدي وإزاحة الدكتاتور، والقضاء على القوى الاستعمارية في البقعة السورية المقدسة التي بِيعت بكل خساسة بيد هذا الخائن، لحلفائه وأذياله في المنطقة، واحتلالات متعدّدة، سواء كان روسيا أو إيران أو تركيا أو حزب الله أو النصرة أو داعش أو الأكراد الانفصاليين أو… إلخ
إلا أن ذلك لم ولن يتأتّى له ذلك، فها هنّ النساء المناضلات يدسن بأقدامهن على هذا الفكر العفن، فتبرز منهن المتعلمات والمرشدات والمنقذات والكادحات لتنتشلنَ ما تستطعنه من الأطفال والرجال خارج مستنقعات التجهيل تلك، فتقفنَ بصلابة يندر مثيلها، ويزرعنَ حبّ الحياة والحرية في قلوب الأطفال، وها هم الرجال يقفون معهنّ، يؤمنون مختلف سُبل الحماية والرعاية والمساندة والبذل. ويساهم الحوار بين تلك الشخصيات في كشف الخلفية المحددة لخصائص هذه الشريحة بما يظهر معها الفطرة الإنسانية السليمة التي تعمل على معارضة هذا التجهيل ورفض الاضطهاد بكلّيته.
2 يؤازر مكان العرض ضمن الأحياء الشعبية الفقيرة و نوعية لباس الشخصيات والتصميم الداخلي للمشفى والأنفاق في الكشف عن واقع الطبقة الاجتماعية الفاعلة في العمل، ويظهر البيئة المعدمة التي يرزح أفرادها تحت شتى ضغوطاتها
3 تتصف كوادر الفيلم عموماً بثباتها، وتقلّ الكوادر التي تتّصف بالديناميكية، بما يؤكد أن محورية الفيلم تدور حول المراة المضطهدة العاملة، فتتّصف حركة المرأة بالسكون والركود، ما أوقع الفيلم في إيقاع رتيب على نحو قد يصيب المشاهد بالملل بعض الأحيان، إلا أن حركة الأشخاص داخل الكوادر ضمن بعض اللقطات التي لا تكاد تطول لتكون مشهداً كاملاً، فيما عدا الجزء الأخير من وسط الفيلم عندما يصل الصراع ذروته أثناء التعرض للقصف بالكيماوي، تضفي بعضاً من الديناميكية التي تتصف بها حركة الرجال، إضافة للحركات الانفعالية للأطفال من جهة، وحركة الكادر الطبي ككل أثناء الإسعاف من جهة أخرى، والتأثير البصري النفسي الذي أدّته بعضٌ من لقطات القصف وتنفيذية المؤثرات الصوتية خلال تناوبات الصمت والضجيج، كل ذلك أضفى نوعاً ما حركة على الجو الساكن في النص، مما عمل على شد انتباه المشاهد نحو الفيلم من جديد بعد وقوعه في فخ الرتابة بين الحين والآخر
4 أمّا أداء صوت الممثلين الحركي بنبرة عفوية، فقد أضفى طابعاً من الفطرية التي تتمتع بها الشخصيات المساهمة في سرد الأحداث، بما يؤكد على واقعية الفيلم ومجرياته، كما أن أداء الطبيبة أماني الصوتي الانفعالي عندما تتألم، وعندما تعمل بحزم، أو تغضب أو تحزن أو تناقش ساهم في إيصال الفاعلية العاطفية على نحو كاد أن يكون متكاملاً، و كذلك الأمر بالنسبة لنبرة الغضب التي اعتلت نقاش الذكر المجهّل، والخنوع الذي وسم نبرة المرأة المحرومة من العمل
وقامت المؤثرات الصوتية بإثارة الهلع وإحاطة المشاهد بنوع من التصوّرات عمّا قد يحصل من قتل ودمار حيث يكون وسط تلك المعمعة، بأصوات سقوط الصواريخ ونفث الطائرات في السماء، كما أن صوت صراخ الأطفال وعويل الجرحى عمل على إثارة الخوف والتعاطف في ذات المشاهد. وبعثت مؤثرات الموسيقى روح الصمود والعطاء والرفعة المتأصلة في كينونة السوري، أمّا موسيقى القدّاس الجنائزي فحققت الجوهرية التي تتفرد بها كينونة هذا الفرد، فطاقة الموت والهلاك هي ذاتها محفّز لدواعي الصمود والرفعة المتجذّرة فيه عبر التاريخ، كما أن أصوات أجراس الكنيسة الصادرة عبر المناطق المجاورة للغوطة الشرقية في ظل غياب صوت الأذان، كشف عن حقيقة مساندة باقي شرائح المجتمع السوري لأهالي هذه المنطقة المنكوبة، وعن العناية الإلهية التي تصرّ على الإحاطة بهذا الشعب، مهما حاولت قوى الدمار إفناءها، فإنها ستعود للتشكّل في آلاف من الصيغ راعية هذا السوري وذاك.
وساهمت الموسيقى التصويرية في إبراز الأداء الدرامي المعني. كما أن إتقان الأسلوب في تناوب إيقاع الصمت والصوت، قد ساعد الأداء الحركي الحواري على الوصول للهدف الذي قصد إليه الفيلم.
أمّا الحوار فيعكس رغم بساطته وهشاشته، فيضاً من المشكلات والتساؤلات الوجودية على لسان الأطفال، فالطفلة التي أصيبت في الجامع قالت إن إصابتها لم تكن بسبب تواجدها للصلاة بل كانت هناك لإحضار الماء لعائلتها العطشى، كنوع من العطاء الذي حاولت إغداقه بذاك الفعل على عائلتها، كما أن الطفلة اليتيمة الأخرى، لم تعرف سبب الحياة؛ فكل ما رأته من العيش هو الخوف والموت، وهذا نقيضاً لفطرة الطفلة السليمة، فلم تعرف سبب وجودها في هذا العالم الآثم، كما أنها اختارت أن تكون معلمة تنشئ جيلاً بنّاءً مسلحاً بالمعرفة، على أن تكون طبيبة، بعد أن قرنت هده المهنة بالدوام على رؤية الجراح والآلام والموت، أمّا أحد الأطفال المصابين بالكيماوي فكان جلّ صراخه كلمة “ماما”، فاستجدى غريزياً بالعطف والأمان، في حين صرخ آخر “بابا” مستجدياً الحماية والبقاء. وهذه الفطرة تظهر خلال كلام الطبيبة المتقدمة في السن، أماني فهي عندما تقول سبب الموت واضح وبسيط اختصرت كل تعقيدات التوجهات السياسية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية التي حاولت طرح مسبّبات الأزمة السورية، فأعادته لتسلّط الدكتاتوريين بكل وضوح، وحين أتبعت الجملة بـ( صار في كذب كتير)، فقد أوجزت جميع أنواع الفتن في ذلك، وكذلك الأمر حين قالت بأسى: ( كيف فيني أمسك دموعي وأنا عم شوف صورة إنسانيتنا تشوّهت قدامي، بخاف افتح عيني ويظل الشي البشع، يبقى معي طول حياتي، مارح أنسى الحقيقة اللي عشتها، حاسة حالي نسيت شي كتير مهم هنيك، بدي افتح عيني وشوف الضو البعيد ورا البحر، حاولنا ما نموت، حاولنا نبقى ببيوتنا، هاد كل شي، ياترى رح يكون في عدالة؟)، أي أن سبب الجدال الدائر حول أسباب الحرب في سورية، وقتل المدنيين، هو أنهم أرادوا البقاء أحياء في بيوتهم دون أي أجندات سياسية أو طائفية مزعومة.
أمّا العناصر السردية البصرية للمادة الفيلمية، فتمّت بتوظيف ضبط الإضاءة بين المستوى المتوسط والضعيف في معظم المشاهد، وبالاستعانة بمصادر الإضاءة الطبيعية في عدد قليل من المشاهد، في حين غلب استعمال الإضاءة الصناعية، وتمّ إتقان ضبط “الكلفن” لتوظيف عنصر الإضاءة في إحلال الأثر النفسي المطلوب. وكان لتكوين الكوادر المتوسطة وتنظيمها في أكثرها، وتمّ الاستعانة بلقطات (كلوز) و( بورتريه) واللقطات البانورامية بعض الأحيان، كلقطة الغوطة أثناء القصف، كما ساد المنظور العام مع حركة تتبع للمشفى، والجانبي لأماني، والأمامي “تعريفي لمشفى الكهف، والخلفي لأماني وأحد العاملين بالإنقاذ على معظم اللقطات، تخلّلها منظور “عين الطائر” بعض الأحيان؛ لتفعيل الخاصية (الإحلالية )، مثل رصد الكهف باطن الأرض، فالغوطة بأكملها من نظرة عين أماني، وأماني تحدّق بوجهها في المرآة، كما تمّ استخدام منظور (عين الضفدع ) للنفق المؤدي لمشفى الكهف، وفي آخر لقطة من مشاهد الفيلم، ممّا أدى لظهور العلة الغائية للحبكة غير المباشرة ببراعة، ووظفت الأحجام و حركات الكاميرا المختلفة التي تراكب المستويات المتعددة في المشهد الافتتاحي؛ كي تسرد المؤثرات البصرية رؤية النص المكتوب، فما تم التقاطه من خلال منظور )عين الطائر(، وهو منظور ما تراه السيدة المراقبة لما يحدث، لا فقط في محيطها، وإنما في مختلف أنحاء سورية، لتظهر الغائية الإحلالية للحبكة غير المباشرة، فهي من وكلّ وجزء من النساء الحارسات في كافة مدن وقرى سورية في كلية الواحد، من خلال أجزائه.
تنوّعت حركات الكاميرا كثيراَ بين “حركات ثابتة” (الشمعة المضاءة داخل الكهف) و”شاريو” من خارج الأرض أثناء القصف إلى داخل النفق، و” كرين” للطريق الوعرة أثناء الجولة الاستطلاعية، و”تتبّع” للعامل في فريق الإنقاذ، إضافة لحركات أخرى.
وكذلك العدسات المستخدمة تنوّعت بين العدسات المعيارية؛ لإعطاء زاوية رؤية طبيعية تعادل زاوية رؤيا العين البشرية، وعدسات الزاوية الوسيطة، لالتقاط الموضوعات داخل الأماكن الضيقة في الكهف، وعدسات التصوير عن بُعد، لعزل التفاصيل والتركيز عليها في المناطق الكبيرة وتقصير المسافة بين الكاميرا وأجزاء المشهد الأصغر وعدسة المجال المنقسم؛ لتكون العناصر القريبة والبعيدة في خلفية الكادر واضحة التركيز، وعدسات الإمالة للمباني؛ لتلافي إسقاط المنظر المبني على الشريط السينمائي على نحو مائل، وإبقاء الخطوط عمودية متوازية على سطح الشريط الخام.
وكانت أساليب المونتاج تتنوّع بين القطع الناعم بين معظم المشاهد، وتمّ الابتعاد عن أسلوب القطع الخشن إلا في بعض المشاهد التي تنقلنا من داخل المشفى خارجاً أثناء القصف، كما تمّ توظيف أسلوب الدمج بين بعض المشاهد؛ لإبراز خاصيّة الإحلالية.
أمّا الإيقاع الداخلي وتوظيف أنواع المؤثرات فرتيب في الغالب، وساعدت المؤثرات الصوتية في كثير من الأحيان على إخراج المشاهد من حالة السقوط في الملل ودفعه للتفاعل مع الحدث.
وفي بناء العمل الهيكلي، تقوم المادة الفيلمية التوثيقية على نقل الأحداث والوقائع كما هي ضمن صورة محققة لقواعد التوازن التكويني، فتلقي بثقل الحدث بما يتلائم مع رؤية العاملين على الفيلم، فتتمثل من خلال مشاهد الدمار واستعمال اللغة العامية على مستويين، هما، المستوى الميداني الواقعي، وعرض حقيقة الفظاعات التي تُمارس ضدّ الشعب السوري، والقصف العشوائي الممنهج، والمستوى الاستقرائي التنبّؤي، فلا مكان لهذا النظام السفّاح على أرض هذا الشعب، مهما طال بقاؤه، ومهما بلغت غطرسته رغم المصير المجهول الذي ينتظر كل فرد من أفراد تلك المنطقة، خصوصاً، ومن أفراد الشعب السوري عموماً، فنُبل قضيّته يجعل من نصره أمراً محتوماً، وطريقة طرح هده النتيجة الحتمية، تعرض من خلال السرد الإحلالي عن طريق الشخصيات المؤدّية للفعل الدرامي ضمن صور رمزية تكرّرت عبر تاريخ الحضارة السورية منذ القِدم فقد كانت سورية أرض الشمس التي رسمت بيد النساء السوريات الممثلات لخصوبة تراب هذه الأرض على المرآة التي تعكس روحها الحارسة الكامنة فيهن، وبواسطة أدوات التجميل البسيطة في حقائبهن، حيث قضت شراسة الحرب على نضارتهن، إلا أن جمالهن سيقضي على بشاعة الظلم الآن، كما فعل في غابر الزمان، حيث كانت سورية مطمعاً لحضارات العالم القديم و مرتعاً لأشكال السلب.
ويمكن تلخيص أجزاء العمل الكيفية بالآتي: الحبكة غير مباشرة إحلالية، تتأتى من خلال رمزية الأنفاق في باطن الأرض التي تحمي أطفالها ونساءها ورجالها، حيث أن الأنفاق هي رمزية لمعبر رحم الأنثى، والكهف رمزية للحلم وصلابة الرجل، ومن حيث أن جبل قاسيون هو رمزية لشهادة مناضلي سورية، و مياه البحر المالحة رمزية للمرأة القتيلة على يد الذكر المتسلّط، وحذاء الطفل الغريق في قاع عمائها البدئي، رمزية للركود الحاصل جراء الحرب، والسمك الحي المتحرك فوقه رمزية لقوة الحياة المتجددة داخل اللجّ الذي هجر أصحاب الأرض، فعبروا من خلاله نحو دول أخرى كطوق نجاة وبصيص أمل. ظن المحتلون أن أرض سورية فرغت من شعبها، وآلت لهم، إلا أن هذا لم ولن يحدث داخل العماء القتيل الذي تنبثفق منه أرواح الشهداء في جيل يحفظ أصالة الشعب رغماً عن كل القوى الغاشمة مهما بلغ عتوّها، ومن هنا تظهر العلّة الغائية للتنظيم الكلّي للعمل، في حين تتبدّى العلّة الفاعلة للحبكة المباشرة، فتظهر المسبّبات من خلال كدّ الرجال الدؤوب في حفر الأنفاق على طريقة الأجداد وإنشاء الكهف المنقذ المتبدّي داخل عين المرأة السورية الحارسة التي تثبت مصل الشفاء وتقضي على السمّ الزعاف، رغم نفاد الدواء، بما يؤدي الهدف المرجو من العمل، بالتذكير بالوعد المنشود الآتي لا محالة، عبر نافدة الحافلة الناقلة للطبيبة من الغوطة لدمشق، ثم خارج الوطن، أثناء غيابها عن الوعي، في النوم حيث ينبعث الوعي الجمعي عبر المكان ويذكّر بالوعد، ويتمثّل في شخصيات الفيلم المتّسمة بفكر حيوي متناسق مع المادة الفكرية التحفيزية، ومتلائم مع السليقة السورية من خلال بساطة اللغة المحلية التي تتحدث بها وبما يعكس العنصر الذهني والعصب المحرك للفيلم، أي أخلاقيات الشعب السوري المتسامية، وبذله اللامحدود، وإيثاره المشهود عبر المرئيات المحددة والصوتيات المحركة وعرض كافة تلك العناصر للعلة الصورية من خلال أجزاء العمل الكمية، بدءاً من مقدمة الأحداث، حيث تعرف المقدمة بشكل مقتضب عن المكان والأحداث كجزء من العنوان ثم يبدأ السرد في كادر افتتاحي بانورامي يبرز أحياء الغوطة وصواريخ الميغ الروسي تعيث فيها دماراً، دخان النيران المنبعثة لا تصدر عن المنازل على الرغم من إحراقها وإنما تظهر في الكادر من خلف أحياء الضاحية للتأكيد على أن الغوطة حية مهما قصفت، ويتوسط الدخان المنبعث الحيّز بين الأحياء وجبل قاسيون الشاهد على كامل العاصمة، وما تتعرض له من عدوان، بعدها يتحرك الكادر الافتتاحي لمراكبة ثلاثة مستويات من سطح الأرض إلى داخل إحدى الأبنية المهدمة، فباطن الأرض حيث بنيت مشفى الكهف، ثم يعرّف الكادر عن أماني وفريقها، ويظهر صوتها شارحاً سبب العدوان، يليه لقطات تعريفية توضح المكان من خلال سلّم لولبي ضمن كادر تكوين حلزوني يشير لحركة الأنثى، يليه تباعاً كادر ذو تكوين أفقي يشير لحركة الرجل يظهر الغرفة المؤدية لنفق داخل الأرض ومنه للسرداب المؤدي للأنفاق رمزية للعبور من الرحم، فالرجال العاملون داخل النفق في الحفر والبناء، ثم يتوسع الكادر كاشفاً عن عدد أكبر من الأنفاق المحفورة في مختلف بقاع سورية مترابطة مع ذاك النفق، حيث لم يترك النظام مكاناً في سورية لم يسلم منه. تطبّق هنا الكاميرا منظور الطائر؛ لتكشف عن المساحات الشاسعة، ولازال صوت أماني يتحدث حتى يعود الكادر لتراكب المستويات، فتظهر محتوياته داخل بؤبؤ عين أماني، ثم يتوسع لكلوز فبورتريه لنتعرف على وجه مَن كان يتحدث، و بهذا تنتهي المقدمة. فاللقطات الأولى للمشهد في وسط الفيلم، هي لقطات تعريفية للمشاهد توضح التحديات التي تواجه الكادر الطبي مترافقة بصوت سيارة الإسعاف ومناظر الجرحى المتألمين البريئين، وتظهر الدكتورة أمل منهمكة في طبابة الأطفال المصابين بشظايا ودمار الحرب، ويظهر رضيع منهم على وشك الاختناق و يذكر أن أحد الأطباء أصيب بشظية في الكبد، ثم تتوالى المشاهد لتظهر مختلف أوجه المعاناة التي يرزح أهالي الغوطة تحتها، فأخذ أحد المجهلين يعترض على عمل الطبيبة أمل، ويطالب باستلام طبيب رجل لإدارة المشفى ويحمّلها مسؤولية عدم توفر الدواء لعائلته، ويزعم أن مكان المرأة هو منزل زوجها و أطفالها، فيحاول أحد الأطباء نقاشه بهدوء، وتفهم في حين أن ذاك الأمر قد أثار غضب أماني لكن الذكر يغضب من إصرار الطبيب على عمل النساء فيقاطعه ويخرج غاضبا كما تعرض المشاهد مواقف أخرى عن اضطهاد النساء، فرغم صعوبة حياتهن ونبل طموحاتهن يكبلن بقيود أشد من القيود التي كبّل بها الرجال، فمنهن من استطعن تحقيق ما طمحن إليه، ومنهن من لم تستطع، فتظهر إحداهن متمنية المشاركة بالعمل في المشفى، لكنها تخشى اضطهاد مجتمعها كما تتبلور شخصيات الساردين للأحداث شيئاً فشيئاً، فتظهر الطبيبة سماهر مرحة ومحبة لإلقاء الدعابات رغم القصف وانتشار الموت أينما كان، ويظهر الطبيب المساند للمرأة السورية محبته للموسيقى الكلاسيك، فحيث يعاني الكادر الطبي من نقص موارد المشفى، وحتى المخدر أثناء إجراء العمليات الجراحية، فإنه يستخدم هذه الموسيقى للتخفيف من آلام المرضى المسعَفين، وحيث يشتد القصف ومعه الرعب في قلوب المتواجدين في المكان، يستعين الطبيب بعروض راقصي الباليه، وبعث الأمل في نفوس المتواجدين من خلال المحبة بين الرجل والمرأة، والبادية من خلال مؤدي رقصات الباليه، كما يعرض الفيلم مشكلة نقص الغذاء، وكيف يعمل المتواجدون على حلها عن طريق الاقتصاد وأحوال المرضى والضحايا الذين ينتقلون باستمرار على يد المسعفين، فمنهم من يُنقَذ، ومنهم من يفقد حياته، فتفجع أمه أو ابنته عليه، كما تظهر تساؤلات الأطفال وتفكراتهم المختلفة في مسائل وجودية طفولية حين تحاول الطبيبة أماني بحنان مناقشتهم وبث الأمل في قلوبهم بعد أن يُتّموا، وأحاط الذعر بهم من كل جانب، ويوضح الفيلم قلق عائلات العاملين داخل هذه المنطقة المنكوبة وصعوبة التواصل بينهم بسبب انقطاع الكهرباء والإنترنت المتواصل، عدا عن صعوبة التنقل داخل الغوطة، حتى أثناء الجولات التي تقوم بها الطبيبات خارجاً لمعالجة أطفال العائلات التي لا تستطيع الوصول للمشفى، فعلى الطبيبات النفاذ بسلام خلال وابل الطلقات النارية الموجهة تجاههن من قبل القناصة، كما توضح المشاهد كيف يتناوب العاملون هناك على مواساة بعضهم كلما شعر أحدهم بالذعر أو اليأس فلا يتوانون عن تقديم الدعم المعنوي والنفسي للآخر، ولا يتوانى أصدقاء أماني عن مفاجأتها باحتفال عيد ميلادها في حدود إمكانياتهم المتواضعة، وتنطلق الابتسامات من بين الدموع، تلك الابتسامة التي لا تفارق وجه السوري أينما كان، وحيثما حلّ، رغم كل ما تعرض له من فواجع، إنها ابتسامة الثقة بالحق والشعور براحة الضمير، فيتم تجسيد صراع قوتين متناقضتين بين قوة الخير المتمثلة في التضحية والسلام والعطاء والبناء، وبين قوة الشر المتمثلة بالدمار والموت والحرب والتسلط، ويستمر الصراع بالتصاعد حتى يبلغ ذروة عقدته ذاك اليوم المشؤوم، حيث قصفت الغوطة من قبل النظام بالأسلحة الكيماوية المحرمة دولياً، فسببت موتاً شنيعاً لكافة الفئات العمرية، وجهد الأطباء عبثاً لإنعاش رئات المصابين بالاختناقات داخل مشفى بإمكانيات متواضعة جداً، حتى خرجت الأمور عن سيطرتهم، فاضطر من تبقى على قيد الحياة من السكان لإخلاء المنطقة.
وحيث تنتهي آخر مشاهد الوسط بمغادرة أماني للمشفى باكية، تبدأ أولى لقطات المشهد الأول للنهاية، حيث تمسك أماني بقطعة من الملابس الملطخة بالدماء، وتتنقل أمل بين الخرائب، وتلقي بتلك الملابس في شعلة نار ملتهبة، بما يؤدي لاستمرارية ظهور العلة الغائية للعمل من خلال هذا الفعل الإحلالي، موضحاً أن هذه الدماء ستؤجج اللهب، إثر احتراق الملابس، ويرتفع عالياً؛ ليذوب في الدخان المنبعث إثر سقوط أحد الصواريخ بعد أن عبر إليه من خلال حطام إحدى المباني، ثم يتلاشى في السماء، فتتسائل أمل بصوت الأم السورية الكبرى الواهبة لمصل العلاج عن صورة الإنسانية الي تشوهت أمامها خائبة، ثم تعود الكوادر لإظهار عمليات إخلاء المشفى والغوطة بأكملها، ونقل من تبقى من السكان إلى دمشق. وحين وصلت، حاول والدها مواساتها بعد أن حملت نفسها المسؤولية لإخفاقها في محاولاتها اللاهثة لإنقاذ الجميع، وقررت عدم العودة إلى منزل أهلها، فهي رغم خيبة أملها وحاجتها للراحة والانقطاع عن الدراسة والعمل، إلا أنها لا زالت على يقين بأن كل من هجروا عائدون، على الرغم من أن ظاهر الأمور لا تبدو كذلك، إلا أن روح الأم السورية الكبرى، تندفع خلال عقلها الباطن أثناء نومها، فتخرج عبر نافدة السيارة التي تقل أماني بعيداً عن سورية، فتذكر الشعب السوري بوعدها المنشود أبد الدهر، في حين تحل ذات الأم بكلّيّتها هذه المرة دون تجسدها في شخص أماني في المشهد الأخير للفيلم، حيث تدفع بأرواح الشهداء من باطنها في مياه البحر للعودة خارجاً من جديد واستعادة الأرض من المعتدي، ثم تركت النهاية مفتوحة كعنصر من عناصر التساؤل عن المصير المجهول الذي ينتظر الشعب السوري.
وأخيراً ثمة معايير للإنتاج النصي الفردي للعمل، تتجلّى في المعيار الجمالي الذي يظهر ببساطة الحوار والتعابير السائدة في النص، وتبلور المعاناة التي تظهر من خلال كلام الشخصيات من مختلف الفئات العمرية، بحيث يعكس الآلام والمعاناة والطموحات وفق أسلوب إيقاعي متناوب بين الصمت والكلام والدموع والابتسامات، وبحيث تفعل الأحداث قدرة الصمت التبادلي مع المؤثرات الصوتية لتحقيق التأثير النفسي المعني. وكذلك المعيار الخلقي، الكامن في الواجب الوطني الواقع على عاتق الشعب السوري ككل في مقاومة القوى الدكتاتورية المتمثلة بنظام الأسد وأعوانه من جهة، ومن جهة أخرى في مؤازرة القريب مادياً ومعنوياً، وواجب الكادر الطبي السوري في إسعاف الضحايا وإنقاذ الأرواح، وواجب الرجل السوري في احترام وتقدير المرأة السورية والحفاظ عليها وترك مساحة ما لها للمشاركة في بناء المجتمع، وواجب الأطفال في بناء مستقبل واعد بما يحقق بناء سورية مستقبلية مزدهرة، وأهمية العدالة والحرية، وإتاحة الفرص على نحو تكاملي بين مختلف شرائح المجتمع، وصولاً إلى إيمان الشعب السوري بعظيم صموده، والثقة بقدرته على القضاء على عصابة الإبادة الأسدية مهما طال بقاؤها.
أما معايير السلم الإنساني، فيناقش الفيلم معيارين أساسيين، وهما: اضطرار بعض الناس لهجر أرضهم والتناحر مع جيرانهم في سبيل ذلك ( كل واحد صار بدو بس ينفد لوحدو… بيتقاتلوا عالباصات الي بدا تهجرون و تطالعون من بلدون متخيل! )، ومشكلة تجهيل الشعب الممنهج من قبل نظام الأسد من خلال إشاعة فكرة تسلط الذكر الجائر على الإناث ( ليش لازم دائما يحسسونا إنو نحن أقل قيمة …)، إضافة لمعايير إنسانية أخرى، كالقصف العشوائي والتجويع والتعطيش والتخويف والترهيب. لكنّ اللغة العامية البسيطة السطحية المعتمدة أسلوباً لغويّاً، عكس مكنونات العقل الباطن الجمعي، وتفرد جماليته من خلال التعبيرات العفوية الفطرية بعيداً عن التعقيد.
أمّا المعايير التركيبية التعبيرية، فقد وظّفت العناصر السردية البصرية بإتقان لتحقيق ترجمة المادة المكتوبة صورياً على طول شريط الفيلم.
وتبدّت الجذور المثيولوجية لميزوبوتاميا، بإحاطة الشخصيات المتدينة بالقوى الميتافيزيقية التي تظهر بصرياً وسمعياً اعتماداً على ما ورد في النص المكتوب بصرياً، كما في ( رسم الشمس على المرآة، مياه البحر المالحة، النفق، الكهف، مصل الحية )، وسمعياً مثل ( صوت أجراس الكنيسة، حوار الممثلين “ما زادني القصف إلا إيمان.. الله يحرقون بنار جهنم” …).
وضبطت الكوادر وفق قواعد التكوين الفني دون إثارة جمالية سارة لعين المشاهد، وهو ما يسمى ( المعيار التشكيلي ). وكانت الصور والمشاهد متنوّعة، تُلمح لرموز نفسية وميثولوجية عميقة في النسيج الاجتماعي، وتتراكب لتكوّن لوحات مشهدية زاخرة: ( مئذنة الجامع، جبل قاسيون، عين الأنثى الحارسة، السمك، لطخ الدم، حذاء الطفل، الدخان المنبعث من داخل الأبنية للسماء، الدخان خلف المدينة، الدخان وسط المدينة، النافذة، الطبيبة، الضفيرة، السماء، نفث الدخان في السماء على شكل قوس دائري مقطوع، الشمعة، السفينة، قاع البحر،….).
وأخيراً لا بدّ من الوقوف على الشريحة المستهدفة، وهي هنا الجمهور المهتم بقضايا الحرب السورية عموماً، والجمهور المهتم بحقيقة فاعلية دور المرأة السورية في خضم الحرب خصوصاً، وقد تم تفعيل الكثير من العناصر في سبيل تأدية الأغراض السياسية والاجتماعية والنفسية التي يرمي إليها النص، والأبرز كان توظيف المرأة لتأدية دور العامل النفسي في مفهوم التطهير الأرسطي.
* كاتبة سوريّة