للكاتب والمترجم المصري السيد إمام (1945-2023) تدين الثقافة العربية المعاصرة بالكثير، كمّاً وكيفاً وتنوّعاً من جهة أولى؛ ثمّ الالتزام بمنهجية صارمة في إنتاج ترجمات تنتمي إلى التيارات الأكثر عصرية وقدرة على إثارة السجالات البناءة، فضلاً عن هويتها الطليعية أو حتى التقدمية، من جهة ثانية. وفي هذه، وسواها من «قواعد اشتباك» إذا جاز القول، كان الراحل أقرب إلى حامل مشروع فكري ونقدي متكامل الأغراض، منه إلى مترجم بارع دؤوب يدفعه الوقوع في حبّ كتاب ما إلى التلهف على ترجمته.
ورغم أنّ عناصر ذلك المشروع تجسدت في غالبية ترجمات إمام، خاصة تركيزه على تيارات حداثية استأنست بفلسفات البنيوية وما بعد البنيوية والتفكيكية؛ فإنّ انشغاله بترجمة أعمال الناقد المصري – الأمريكي إيهاب حسن (1925-2015) كان الأبرز في السنوات الأخيرة، سواء تلك المؤلفات المستقلة («تقطيع أوصال أورفيوس»، «النقد النظير»، و»الخروج من مصر» مثلاً)؛ أو اختيار مجموعة مقالات ذات موضوعات متطابقة، وإعدادها وتحريرها ضمن دفتَيْ كتاب («تحوّلات الخطاب النقدي لما بعد الحداثة»). صحيح أنّ إمام أظهر انجذاباً أوضح لاشتغال ابن بلده حسن على تيارات ما بعد الحداثة، إلا أنّ تعدّد الترجمات انطوى في الآن ذاته على تعريف أوسع نطاقاً بشخصية حسن، وأكثر إغناءً أيضاً.
وإيهاب حبيب حسن، لمن لا يعرفه بعد، ولد في القاهرة وهاجر إلى الولايات المتحدة عام 1946 حيث أقام وعمل في تدريس الأدب بعد أن تخلى عن الهندسة؛ وسرعان ما احتلّ موقعاً متميزاً، سواء على الصعيد الأكاديمي الأمريكي والعالمي (إذْ حاضر ودرّس في قارات العالم الخمس)، أو على صعيد النظرية والدراسات النقدية. ومنذ عام 1961، تاريخ صدور كتابه الأول «البراءة الراديكالية: دراسات في الرواية الأمريكية المعاصرة»، واصل حسن إجراء سلسلة تنويعات على مبدأ نقدي متماثل يرى أنّ السمة المركزية في الأدب الحديث (أو ما بعد الحديث في الواقع) هي العدمية الراديكالية في مسائل الفنّ والشكل واللغة.
هذا، في عبارة حسن المألوفة، هو «أدب الصمت» الذي «يدور حول نفسه، وينقلب على نفسه، لكي يعلن الرفض التام للتاريخ الغربي، ولصورة الإنسان كمقياس للأشياء جمعاء». وفي هذا السبيل ذاته، أصدر حسن كتابه الثاني «أدب الصمت: هنري ميللر وصموئيل بيكيت»؛ ثم أعقبه بكتابه الأشهر ربما «تقطيع أوصال أورفيوس: نحو أدب ما بعد حداثي»، 1971. وإجمالاً كانت النتائج تنتهي بهذا الأدب إلى الاغتراب عن العقل والمجتمع والتاريخ، واختزال جميع الالتزامات الطبيعية أو المختلقَة المفروضة في عالم البشر، واستثمار حالات الذهن القصوى بما في ذلك الانفصال عن الطبيعة، أو اللجوء إلى الأنماط المنحرفة من الميول الحيوية والإيروسية. نتائج أخرى تمثلت في سلخ اللغة عن الكلام اليومي، وتحريف الأفكار التقليدية عن الشكل، وصولاً إلى مناهضة كل ما يتصل بمبادئ مثل «السيطرة» و»الحكمة» و»الثبات» و»النسق التاريخي».
وفي دراسة رائدة بعنوان «نحو مفهوم ما بعد الحداثة»، باتت اليوم شهيرة ومنحته سلطة التنظير للتيّار بأسره (شرّفني أن أترجمها إلى العربية، ونُشرت في فصلية «الكرمل»، 51، ربيع 1997)؛ حاول حسن تقديم تخطيط مدرسي توجيهي وتجريبي لظاهرة ما بعد الحداثة. ولقد جهد في توسيع نطاق هذا التخطيط المقارن مع الحداثة، فرسم موشوراً عريضاً من الأسماء والتيارات والأساليب… لكي يتجنّب ــ على الأرجح ــ المهمة العسيرة المتمثلة في اعتصار تعريف ما، لحركة عجيبة معقدة.
والنزاهة التاريخية تقتضي التذكير بأن الفرنسي جان ـ فرانسوا ليوتار، الذي يتفق الكثيرون على اعتباره فيلسوف ما بعد الحداثة الأوّل، كان قد اعتمد على أعمال حسن في إقامة معظم دليله الثقافي. والكثيرون، قبل حسن وبعده، بذلوا محاولات مماثلة لا تقلّ نزاهة ومشقة وحيرة، ولكنها لا تخرج في الجوهر عن المعيار الذي طرحه الرجل في صدر مقالته؛ على هيئة تساؤل أقرب إلى علامة تعجّب: «هل في وسعنا حقاً أن نتصوّر ظاهرة، تعمّ المجتمعات الغربية إجمالاً وآدابها خصوصاً، فتحتاج إلى ما يميّزها عن الحداثة، وتحتاج إلى تسمية؟».
فضائل إمام لم تقتصر على تطويع سلسلة من المشاقّ المقترنة بلغة حسن، وجملته المركبة ذات الاشتقاق المكثف والنحت غير المألوف؛ لأنّ المترجم الكبير الراحل شاء الذهاب أبعد في تطويع منجز ابن بلده، فاستقرّ على شطر ثانٍ هو «توليف» عدد من مقالات حسن المتفرقة، وضمّها في كتاب أشبه بـ»كشكول» أفكار وسجالات ومظانّ وأطروحات. ففي «تحوّلات الخطاب النقدي لما بعد الحداثة»، 2018، انتقى إمام 9 مقالات ذات تنوّع عريض، يبدأ من التنظير لما بعد الحداثة، ولكنه لا ينتهي عند مسائل القومية والاستعمار والتعددية الثقافية؛ لأنه يمرّ أيضاً بالتأمل في الخرائط والقصص، والعُقاب وغصن الزيتون والحلم، وطغاة الصحراء حيث المذكرات الهزلية…
وعلى أكثر من نحو، فإنّ العارف بالحدود الدنيا من مفاصل تفكير حسن، والمتصفح للائحة ترجمات إمام المختلفة؛ لن يعدم التنبّه إلى جملة من المشتركات بين الرجلين، لا تتوقف عند حدود الفكر والنظرية والفلسفة، لأنها ببساطة تشكّل ما تصحّ تسميته بالقواسم المصرية. وليس هذا على بلدهما العظيم بكثير، أو لعلّه المنتظَر الأدنى بين قامتَين.
“القدس العربي”