لا تبتعد مخاطرة الأدباء الشغوفين بالتداخل بين العناصر الأدبية، وبالأخص عند إجرائه بين الشعر والرواية، عن الوقوع في فخاخ المتداخَل به، فهتْكُ الجدران بين الأكوان ليس كمثل هدم جدارٍ لتوسيع غرفةٍ، وعلى المغامر دفع ضريبة الهتْك إن لم يكن على قدْر عزمه. وكثيرةٌ هي الروايات التي كتبها شعراء وسقطت في فخاخ الرواية عند اعتمادها على لغة الشعر، من دون التسلح بميزان الصاغة، كما هي كثيرة دواوين الشعر التي سقطت بإنتاج روائيين عندما ابتلع شاعريتها السّرد بالمقابل. ولا يَسْلمُ من ميزان معادلة التداخل هذه سوى الصاغة المبدعون مثل الشاعرة الفلسطينية داليا طه التي أصدرت مجموعة شعرية متداخلةً مع الرواية تحت مسمى ثانوي وضعته بجملةِ «شعر في مونولوجات» تحت العنوان الرئيس الذي يوحي بالروائية: «سيرة سكان مدينة ر» ويفاجئُنا بقصائد نثر تنبض تحت جناحه، وترتقي شِعرية عاليةٍ عند ربطها باقةً تقدَّم إلى قارئ شغوفٍ بأزهار الشعر، وأكثرَ، بغرائب ارتباطات هذه الأزهار.
في «سيرة سكان مدينة ر» ومنذ البداية يفاجئكَ الغلاف الذي تهجسُ أن من صمّمه شاعرٌ، وتكشف بيانات المجموعة صدقَ حدسك في أن من صمّمه فعلاً، هو الشاعر الذوّاق زهير أبو شايب، باستخدام لوحةٍ للفنان خالد حوراني.
ويقودك زوال سحابات الخوف على الشعر إلى القصيدة الأولى التي تخاطبك بعنوان يختلف بطوله عن بقية عناوين القصائد التي تأخذ سطرين وثلاثة، بأخذ كلمةٍ واحدةٍ، لكنّها تكبر لتصل حجم الكون الذي أتيت منه وتذهب إليه حين تدرك أنها: «أنت»، كفردٍ من سكان مدينة ر، ومدينةٍ أخرى، وأخرى، إلى ما لا ينتهي من احتمالاتٍ يوفّرها لك كونُك، ويمنحُكَ متعةَ التشابك الشعري الكمي مع آخَرك، ولو كنتَ في طرف الكون وكان الذي هو أنت في الطرف الآخر من هذا الكون. وتزيد طه تحويل تشابكها من عنبٍ إلى نبيذٍ بفتح باب تساؤلاتكَ عن وجودكَ، ومدّها أكثر إلى قلبِ مفاهيمك عنكَ كمولود تعرفُ أنه ولد من عائلة تنتمي إلى بلد ودين معيّن؛ حيث تخطفك القصيدة وتوقِعك بتوقّع الانخطافات في بقيّة القصائد، وفي أنك غيرُ ما تعرفُ عنكَ، بسؤالكَ:
«هل تذكر أوّل ليلةٍ لك في هذا العالم؟
إنها ليست ليلتَك الأولى
في القاهرة أو باريسَ
في كينشاسا أو بوينوس آيريس
قد تكونُ وُلِدتَ في قريةٍ هادئةٍ إلى جانب النهر
أو بجانب ناطحة سحابٍ
ولكنها ليلتُكَ الأولى على وجهِ الأرض.
ما يحيطُ بمكانِ ولادتِك
ليست المدنَ والبلداتِ المحاذية
ولا حتى الدولَ أو القاراتِ المجاورة
إنها المجرّات والكواكب».
بعد «أنت» في سيرة سكان مدينة ر، تتوالى كبنية تضعُها طه «زمكاناً» لتداخلها مع شخصيات مدينتها التي تتخطّى كونها البشري إلى الأشجار وغيرها، أربعونَ قصيدة نثرٍ يغلبُ عليها التوسّط في الطول جسداً، والعناوينُ الطويلة، برقاب تقترب من سحر أشكال مودلياني. إذ يشكل كلٌّ منها عنوانَ المشهد، كما لو كان عنوانَ ورقةٍ تُعطى لممثل مسرحي أو سينمائي ليعرف دوره، بإلغاء الأزمنة، حاسماً فرض الحاضر المفتوح على المستقبل، مع تكريس طه لهذا باستخدام فعل المضارع في لغة العنوان، ورفع لغة الإيضاح إلى مشهدية عالية تدفع القارئ إلى التصوّر، بإضافة كلمات زمن الحاضر مثل كلمة «الآن» في عنوان: «الرجل وصديقته اللذان تشاجرا طوال ليلة أمس ويقفان الآن في إحدى صيدليات مدينةٍ لشراء حبوب الصداع»، وكلمة «اللحظة» في عنوان: «زوجة الرجل السابقة وهي تعمل في إذاعة مدينة ر وتقدم برنامجاً إذاعياً صباحياً عن الأسرى في اللحظة التي أخرجت فيها ورقةً بقائمةِ ما عليها أن تفعله اليوم». وكلمة «التوّ» في عنوان: «المرأة التي فتحتْ للتوّ البابَ الزجاجيّ لأحد المتاجر في الشارع الرئيسي في مدينة ر».
وفي بنيتها هذه تُجري طه شعراً عذباً تدعمُ امتداداتِه السرديةَ من دون تأثير على شعريته، قدراتُ قصيدة نثر ما بعد الحداثة والسوريالية التي تصل حدودَ إلغاء الواقع، وخلق واقعاتٍ افتراضية تتشابك فيها الحياة بالموت، ويتحرك فيها سكان المدينة الواقعية وغير الواقعية ر، الذين ماتوا ولم يموتوا كما يبدو، لكنهم يتحوّلون إلى أشجارٍ وطيور، وكائنات، وأكثر من ذلك، طاولةً لدى امرأةٍ، في أكوانٍ موازيةٍ.
ومنذ البداية بـ: «أنتَ»، إلى النهاية التي لا تنتهي بـ: «نحن»، سكان مدينة ر: «التعساء/ سكان هذه المدينة التعيسة/ نحن الذين نقطع الحواجز ونحلم بالأفق، نقصقص نهايات الشجر/ نعيش ونأكل/ ونطالب الأعداء بأن يعيدوا لنا أمواتنا/ بينما حبالٌ هائلة من الدموع/ تنمو في حلوقنا/ وأحشائنا/ كأجنّة بلا أطراف».؛ تفرش طه تفاصيلَ مدينتها التي يتضح أنها أيّ مدينةٍ تعاني مرارات الاحتلال. وأنها فلسطين تحت الاحتلال الإسرائيلي، الذي يقيم الحواجز، يهجّر الناس، يقتل الرجال والنساء والأطفال، يعذّب المعتقلين، ويشتهي حتى الهريسة على طاولة البيت الذي يذهب لتفتيشه، تاركاً أنفاس شهوة اغتصاب ما لدى الغير فيها، بما يدعو الأم الفلسطينية إلى رميها في الطريق أمام أطفالها قائلةً بحسمٍ: «لقد ترك أنفاسه فيها». الأمر الذي يحفظ لطه خصوصيتها في أسلوب مقاومة الاحتلال، ويُذكّر بقصيدة محمود درويش: «عابرون في كلام عابر» التي يطلب فيها من المحتلّين أن ينصرفوا عن أرض فلسطين بأوهامهم وأساطيرهم وجثث موتاهم كذلك: «آن أن تنصرفوا/ ولتموتوا أينما شئتم، ولكن لا تموتوا بيننا». وتهمس صارخةً بالضمير الإنساني على طريقتها أيضاً في المقاومة تشابكاً مع عبارة درويش: «على هذه الأرض ما يستحق الحياة»، في مونولوج امرأة نُرجّح أنها ميتةٌ من سكان ر: «نعم هناك الكثير من الأشياء التي تستحقّ الحياة/ لا يمكنني أن أقول ذلك/ وفمي ممتلئ بالتراب/ على أحد أن يتوقّف عن قتل هذه المدينة/ كلّ يومٍ أمامي/ أن يجمع كل البنايات غير المكتملة/ يضعَها في عربةٍ ويدفعَها بعيداً عنا/ قبل أن تَنبت أشواكُها».
وفي هذا الفَرش المتشابك لا تخفي طه الحديث عن قمع المحتلّ الإسرائيلي، ومقاومة الاحتلال في الانتفاضة الفلسطينية نهاية ثمانينيات القرن الماضي، واستمرار ذلك حتى أيامنا، موردةً أسماء الأماكن، وشهود التعذيب، محافظةً على الشعرية سالمةً من فخاخ التوثيق.
كما تُداخل طه، بتعاطف إنساني واضح، شخصيات سكان ر بمآسي المهجّرين قسراً من مدنهم، والهاربين من المجازر إلى اضطرار المجازفة بالحياة في عبور البحار، معيدةً في أكثر من قصيدة تعالج الموتَ غرقاً والنجاةَ التي يحولها الخوف إلى موتٍ آخر، مأساةَ السوريين التي ضربت ولم تضرب ضمير العالم في أعماق بحاره:
«أنا أحلم أحلاماً مخيفةً كلَّ يوم
في كل مرة أنام فيها
أفكر كيف كنا في القوارب
للقوارب رائحةٌ لا يعرفها أحد
لا أحد يعرف الرائحةَ
التي تخرج من مئة جسدٍ متلاصقٍ وخائف
في عرض البحر
كيف تهشّم قرب الشاطئ
كيف نجونا
كيف تهاوت أرجلنا حين صعدنا إلى اليابسة».
في شِعرها المونولوجي غير السّردي، يلمس قارئ سيرة مدينة طه التي منحتها اسم الراء، قوة أسلوبها في خلق التشابك والإزاحة، وفتح المجازات، مثلما تفعل في توزع وتداخل الشخصيات كذرات من ذرات الطبيعة والكون. ففي مونولوج «المرأة التي تقطع شارع الحِسبة بنظرةٍ ساهمةٍ وتحمل أكياساً بلاستيكية»، يمرّ أمامنا شريط مشاركتها رجلاً في مظاهرةٍ، يتشابك فيها جسديهما بالأشجار، وينخلع قلب القارئ باكتشافه احتمالية أنهما ميتين، ليعود إلى بداية القصيدة ويتأكد من خوفه إلى نهايتها التي تعيده مرة أخرى إلى بدايتها، وهكذا: «هناك حواجز كثيرة/ وجنود على مداخل المدينة/ ومن يدري/ إذا خرجنا قد لا نعرف كيف نعود إلى بيوتنا/ ولكننا ولدنا للتو/ ولا نعرف أين نحن بالضبط/ وفي الليل نحن والأشجار نصبح عائلة/ وهذا سبب وحيد وكاف/ لأن نسمي هذا العالم/ الشاسع والغامض/ بيتاً».
كما يعيش القارئ متعة أسلوب طه في التراكب الذي تخلقه على سبيل المثال في مونولوج: «الرجل وصديقته اللذان تشاجرا طوال ليلة أمس ويقفان الآن في إحدى صيدليات مدينة ر لشراء حبوب الصداع»، الذي يتراكب فيه شجارهما غير المباشر، بالحدث المختبئ فيه والمتمثل في المذابح التي جرت على سكاكين الاحتلال، حيث: «لا يوجد أي شيء يشير إلى القرى العربية/ أعلِّق/ وأنت تهزُّ رأسك/ رأسك الجميل/ حتى الصمت الذي يُطْبِق على المشهد بعد المذبحة/ ولا يغادرها أبداً/ الصمت الذي يلتصقُ بلحاء الأشجار وبالصخور/ ويخرج كالغازات من الأتربة/ صمتٌ ثقيل من نوع خاص/ أنت تعرف ما أعني/ ستشعر به حين تزور تلال راواندا أو البوسنة/ ذلك الذي تحسّ به للتو ــ ودون أن تعرف ما حصل بالضبط/ حين تبدأ بالمشي إلى الوراء/ دون أن تشعر/ كما لو أنك لا تمشي على عشبٍ/ بل على شهقاتِ القتلى/ كما لو أن ما يَخرجُ من الأشجار/ ليس أغصاناً/ بل كلماتِهم الأخيرة/ شاخصةً وتحطّ على أغصانها الغربان».
وفي ختام سيرة مدينتها باليأس الذي يولّد الأمل من خلال لعبتها الشعرية في التداخل والتفاعل بين كائناتِ الكون، وتصوّراتها عن ذواتها، وإنتاجها للحياة في قلب الموت، وللأعمال الفنية التي تعالج تداخلات الحياة والموت، تقدّم داليا طه لقارئها ما هو جدير بالقراءة والعيش.
داليا طه: «سيرة سكان مدينة ر»
الأهلية للنشر والتوزيع، عمان 2021
168 صفحة.
“القدس العربي”