لا يمكن في أي سياق سياسي أو عسكري أو إنساني التعاطي ببراءة مع تصريح أحمد أبو الغيط الأمين العام لجامعة الدول العربية قبل أيام حول “ربح” بشار الأسد “المعركة”!
وقبل هذا، من غير المقبول أن تأتي شخصية ذات منصب رفيع في مؤسسة إقليمية كبيرة على مناقشة قضية حارة مطروحة على الطاولة بهذا الأسلوب “الرخيص” وكأنها تتحدث مع شلّتها في المقهى وسط ضباب الأراجيل واصطدام حجارة طاولة الزهر بالخشب.
الرجل يبدو جاهلاً، فهو يشطب السياق الذي نشأت فيه القضية وما زالت، ويهرب بمفردة واحدة، يظن أنه يستخدمها بذكاء.
فإذا كانت الهيئة التي يتولى أرفع مناصبها، تصدر قراراتها، بناء على دراسة الأعضاء للحيثيات، وبناء على التهديدات التي تتضمنها، فإنه من المتوقّع أن التغيير لا بد من أن يأتي من الزاوية ذاتها، أي أن مراجعة الأسباب الموجبة لطرد النظام من الجامعة ما زالت قائمة، على الأقل بالنسبة لعدد من الأعضاء، الذين يرون بأن الأسد ما زال على ما هو عليه؛ ديكتاتورا قاتلا، يرفض المضي في عملية سياسية تعيد بلده إلى سكة السلامة، وبالإضافة إلى هذا يقوم بالعمل مع شركاء يهددون سلامة الدولة العربية الأخرى والمقصود طبعاً هي إيران.
في هذا المنحى، يفترض مَن هو مستأمن على روح عمل الشركاء في المؤسسة ألا يبرز رأيه الشخصي، في أي وسيلة إعلامية، لأن من شأن هذا أن يزيد الشقاق الحاصل بينهم حول المشكلة! ولكن هل هذا هو الأمر الذي يجب التركيز عليه في ظل تداعي المواقف العربية، والانبطاح الواضح أمام القاتل، بعد كل ما فعله بحق السوريين والعرب من فظائع؟
تُعيدنا تصريحات أبو الغيط إلى عتبة يبدو أننا تجاهلناها كثيراً، ألا وهي قدرتنا على إقناع شريحة كبيرة من الإخوة العرب بعدالة قضيتنا، وبعيداً عن التعاطف الطائفي، بعد افتراض أن المجازر التي ارتكبت في سوريا ذات منشأ ديني عقائدي
إجراءات إعادة مقعد الجامعة للنظام، ورغم كل ما أثير حولها من نقاش في اللقاءات العربية البينية مؤخراً ليست ذات أهمية، لا سيما أن بعض الدول لم تلتزم أصلاً بمقاطعته، وكانت تراقب ما يرتكبه من جرائم دون أن يرف لقادتها جفن، ولم يحتج هؤلاء لإذن أحد كي يصرحوا علناً بوقوفهم معه، وما الموجة الراهنة من التطبيعات المنفردة، إلا نهاية مطاف لمرحلة النفاق الطويلة، وفيها لا ينفع أبداً الادعاء بأن الاحتضان يمكن أن يؤدي إلى تغيير السلوك، فمع نظام إجرامي مافيوي، على الجميع أن يتحسسوا أيديهم بعد كل سلام، إذا قيض لمن يفعلون النجاة دون خسائر فادحة.
في واقع الأمر، تُعيدنا تصريحات أبو الغيط إلى عتبة يبدو أننا تجاهلناها كثيراً، ألا وهي قدرتنا على إقناع شريحة كبيرة من الإخوة العرب بعدالة قضيتنا، وبعيداً عن التعاطف الطائفي، بعد افتراض أن المجازر التي ارتكبت في سوريا ذات منشأ ديني عقائدي.
هنا سيستغرب بعضهم من ضرورة الالتفات نحو هذه الفكرة، لكن واقع الحال سيوضح لهم بأننا وبعد كل ما جرى بحاجة إلى إعادة صياغة لسرديتنا، أو على الأقل تحديث نوابضها.
لنترك أبو الغيط في مستنقع جهله، فهو جزء من النظام الرسمي، الذي لم تُغيّر سنوات الربيع العربي من عقليته شيئاً، عندما يفهم الأشياء من شكلها الخارجي، ولا يجد نفسه مضطراً لبذل الجهد لتحري ما يقف خلفها، فالقصة كلها مجرد معركة عسكرية بين الأسد ومعارضيه، انتهت عند تخوم العاصمة دمشق.
ولنلتفت إلى فئات واسعة من النخب العربية، ومن ورائها جزء كبير من شرائح التكنوقراط، ولنسأل عن الديناميات التي تتحكم بتوجهاتها تجاه النظام، وهل ثمة أرضية أخلاقية ما تمنعهم من مد اليد للقاتل، رغم كل ما يروج أمامهم عن أن سوريا ستشكّل فرصة استثمارية مهمة في حال مضت الخطط الرسمية لإعادتها إلى الساحة العربية مع بقاء الأسد في منصبه.
هناك مخاتلة واضحة في تعاطي شريحة غير قليلة من المثقفين العرب مع النظام، وبعض هؤلاء لا يكتفي بعدم الوضوح بل يذهب أكثر فأكثر إلى بناء علاقة مع مؤسسات النظام، مع القدرة العالية على إبراز حجج تبرّر أفعالهم، كفصل الثقافة عن السياسة، وعدم ترك المثقفين السوريين وحدهم، رغم ما يظهر من اختراق واسع لثقافة الملالي لمناحٍ عديدة في البلاد وأولها الثقافة والفن.
لا يشعر كثير من هؤلاء بحاجة السوريين للكرامة والحرية والعدالة، فظروفهم الشخصية لا تعزز عندهم ضرورة الشعور بالشقيق المقموع، الفاقد لمقدرات الوجود الإنساني، إذ لم يحدث في بلد عربي أن استبيح البشر كما حصل في سوريا، كما أن تصوراتهم عما حدث منقولة لهم عبر وسائل إعلامية غير محايدة ومناصرة فعلياً للنظام أو داعمة ضمنياً لبعض التنظيمات الجهادية، ما رسّخ لديهم صورة منمطة للصراع.
وإذا كان لا بد من تحرّي الحقيقة والبحث في المدونات لكشف ما يجري، فسيكتشف الباحث المدقق أن هؤلاء لا يقرؤون! وبالتالي فإنه من الطبيعي أن يجد نوم الأنظمة العربية مع شقيقهم الأسدي في غرفة واحدة ترحيباً واسعاً من هؤلاء.
عجزت مؤسسات المعارضة الرسمية عن بناء علاقة راسخة مع شرائح فاعلة في المجتمعات العربية، لا لعطب تاريخي في مكاتب العلاقات العامة لديها فقط، بل لأنّ الجهل والفراغ يحكم رؤوس من تولوا قياداتها، حين لم يروا حاجة لبناء مثل هذه العلاقات، وخاصة مع المثقفين الفاعلين، بعد أن حكم عقولهم الشعور بأن عدالة القضية تكفي، ولكن الحقيقة التي لا تقبل الشك أن هذه المؤسسات لم تبن في الأصل علاقة احترام وتقدير وتعاون مع المثقف السوري المعارض كي تلتفت للعرب أو الأجانب.
وحتى الآن لا يبدو أنّ الأوان قد فات من أجل خلق تعهد أخلاقي ملزم يتفق عليه السوريون مع إخوتهم العرب وغير العرب، يبنى على الأساسيات الملحة؛ إطلاق سراح المعتقلين وكشف مصير المفقودين، وعودة اللاجئين، والمضي في العملية السياسية وفق المحددات التي ينطوي عليها قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 2254.
وفي المحصلة يمكن لمن يراهنون على خطوات النظام الرسمي العربي تجاه النظام، أن يكسبوا بعضاً من مؤيديه، لكنهم سيبقون في نظر غالبية السوريين وداعمي قضيتهم، مجرد متكسّبين على فتات الموائد.
“تلفزيون سوريا”