ما بين تتويج الملك وليام الفاتح على عرش إنكلترا في يوم الميلاد عام 1066 وتتويج الملك تشارلز الثالث على عرش المملكة المتحدة في السادس من أيار/مايو 2023 تنقضي 957 سنة من حكم العائلة المالكة في بريطانيا.
استحضار هذا التاريخ الطويل كان جليا في حفل التتويج للبناء عليه في كيفية مقاربة الأحداث في المستقبل، والحفاظ على استمرارية الملكية في مقابل تنامي الدعوات والأفكار المطالبة بإلغاء النظام الملكي سلمياً لصالح إقامة نظام جمهوري، عبر استفتاء شعبي تطالب به مقاطعة اسكتلندا وتليها مقاطعة ويلز، بينما ليس الوضع أفضل حالا في مقاطعة إيرلندا الشمالية حيث يزداد نفوذ حزب الشين فين المطالب بالانفصال عن بريطانيا والاتحاد مع جمورية أيرلندا.
لذلك فإن الناظر إلى مشاهد حفل التتويج يشعر وكأنه ينظر إلى كرة بلورية تتزاحم فيها صور الأحداث والرموز ما بين الماضي والحاضر، فيحاول فهمها في سياقها الطبيعي ليخرج بخلاصة يريد منها الإجابة على سؤال مفاده: «إلى أين ستسير المملكة المتحدة في عهد الملك تشارلز الثالث؟».
إيقاع بين السرعة والانتظار
مسيرة حياة الملك الجديد في الأسرة المالكة كانت مزيجا بين السرعة المبكرة، والانتظار الطويل.
فتشارلز الثالث المولود في 14 تشرين الثاني/نوفمبر 1948 كان طفلا عندما أصبحت والدته ملكة بعد وفاة جده الملك جورج السادس. وبصفته الابن الأكبر، أصبح تشارلز ولياً للعهد، في سن مبكرة جدا، حيث كان عمره أربعة أعوام عندما أصبح الوريث المفترض للعرش، وحضر حينها حفل تتويج والدته الملكة إليزابيث الثانية على عرش المملكة عام 1952. كما عينته والدته أميرا لمقاطعة ويلز عندما بلغ التاسعة من عمره، ثم جرى الاحتفال رسميا في مراسم فخمة ومتلفزة بتنصيبه وليا للعهد عندما بلغ سن العشرين. لكن، شاءت الأقدار له بطول الانتظار مدة سبعين عاما ليتولى مقاليد السلطة الملكية بعد والدته التي بقيت في سدة العرش طوال تلك المدة حتى وفاتها بتاريخ 8 ايلول/سبتمبر 2022 وبالتالي بلغ تشارلز الثالث سن الرابعة والسبعين ليغدو أكبر ملوك بريطانيا سناً حين تسلمه الحكم.
وفي الحياة الشخصية يمكن رصد تجربة مشابهة في بعض جوانبها بين السرعة والانتظار على مدى خمسة وثلاثين عاما ما بين الأعوام 1970 وحتى 2005. فعندما كان يُتابع دراسته الجامعية في كامبريدج، ويدرس الأنثروبولوجيا وعلم الآثار والتاريخ، التقى تشارلز بالشابة كاميلا شاند في مباراة بولو عام 1970. وكاميلا هي فتاة من الطبقة البرجوازية القريبة من الدوائر الملكية، وجمعهما حبّ قطعته لاحقا مشاركة الأمير في البحرية الملكية، ثم جاء العام 1973 فتزوّجت كاميلا من الضابط أندرو باركر بولزو. ثم جاء العام 1981 فتزوّج تشارلز من الشابة ديانا سبنسر التي كانت في العشرين من عمرها بينما كان هو في عمر الثانية والثلاثين، وكانت ثمرة ذلك الزواج بين تشارلز وديانا، ولادة الأمير وليم عام 1982وهو ولي العهد الحالي، ثم ولادة أخيه الأمير هاري عام 1984 وهو الناقم حاليا على العائلة الملكية. وأظهرت الحقائق لاحقا أن علاقة تشارلز بكاميلا تم تجديدها عام 1986 وهي انفصلت عن زوجها في العام 1995.
وبعد عام حصل الطلاق بين تشارلز وديانا. وتلاه عام 1997 الذي شهد موت ديانا في حادث سيارة في باريس.
ومضتِ السنون حتى حصل الزواج بين تشارلز وكاميلا عام 2005 في حفل زفاف مدني في بلدية ويندسور، لم تحضره الملكة إليزابيث، لكنّها نظّمت حفل استقبال للزوجين.
وتنقسم الآراء بشأن ما تم ذكره، فالبعض يرى في السرعة والانتظار عوامل لم تكن في صالح تشارلز الثالث، والبعض الآخر يعتبر أنه لم يجنح عن تحقيق أهدافه وما كان يصبو إليه رغم طول الزمن، فها هو اليوم ملك متوج بعد إليزابيث الثانية، وإلى جانبه زوجته كاميلا التي أصبحت «الملكة القرينة وعمرها 75 عاما» رغم أن أحد استطلاعات الرأي الذي أجرته صحيفة «ديلي ميل» مؤخرا يفيد أنه وفي أفضل الأحوال، يوافق 36 في المئة من البريطانيين على منحها لقب «الملكة القرينة» كما رغبت الملكة إليزابيث الثانية، مقابل 23 في المئة يعتقدون أنه لا ينبغي أن تمنح أي لقب على الإطلاق. كذلك لم تتجاوز شعبيتها 46 في المئة، ولا يرغب أكثر من 14 في المئة من البريطانيين أن تُعرّفَ باسم «الملكة كاميلا».
الصراع بين الرعية في الملكية
والمواطنين في الجمهورية
يسعى الملك تشارلز الثالث إلى الحفاظ على التاج الملكي الذي يظلل المملكة المتحدة و14 دولة أخرى هي دول الكومنولث، ويدرك أن جيل الشباب يتطلع إلى التغيير، وكمثال على ذلك فإن رئيس وزراء مقاطعة اسكتلندا حمزة يوسف كان واضحا في موقفه الانتخابي أمام جمهوره حين قال في آذار/مارس خلال حملته لتولي رئاسة وزراء تلك المقاطعة البريطانية إنه «يعتبر نفسه أولاً وقبل كل شيء مواطناً وليس أحد الرعية». كما وعد برئيس منتخب في السنوات الخمس التي تلي استقلال اسكتلندا عن المملكة المتحدة. ويشاركه في قناعاته بشأن النظام الجمهوري أيضا رئيس حكومة مقاطعة ويلز مارك دراكفورد. وليس بعيدا عن تلك القناعة موقف زعيمة حزب الشين فين الأيرلندي الشمالي ميشيل أونيل حيث يتطلع حزبها إلى الانفصال عن المملكة المتحدة والاتحاد مع جمهورية إيرلندا العضو في الاتحاد الأوروبي.
أما دول الكومنولث فتزداد فيها الدعوات المطالبة بفك الارتباط مع المملكة المتحدة، وعلى رأس القائمة تقف الحكومة الاسترالية التي تسرع الخطى نحو التخلي عن الملكية.
كل هذه الحقائق لا تغيب عن بال الملك تشارلز الثالث، وهو الذي سمع مرارا متظاهرين من دعاة الجمهورية يهتفون برفضهم له عبر ترديدهم شعار: «ليس مَلِكي».
كما أن الهالة التي كانت تتمتع بها الملكة إليزابيت الثانية على مدى حكمها لسبعين عاما، كانت إحدى ضمانات استقرار الملكية. وعنها يقول الجمهوريون بأنها كانت «نجمة» النظام الملكي خلال فترة حكمها وأن الظروف الآن تغيرت إذ أن الأرض باتت أكثر خصوبة والناس ما عادوا يرغبون في الاستماع والمشاركة.
ولا شك أن الملك تشارلز يعرف بما جاء في دراسة للمركز الوطني للبحوث الاجتماعية الذي قال في إحدى دراساته: «إن نسبة البريطانيين الذين يعتبرون الملكية مهمة جدا لا تتجاوز 29 في المئة». من هنا يعتبر غاي غودوين الرئيس التنفيذي للمركز إن التحدي الذي يواجه النظام الملكي سيكون إثبات أهميته وجذب الشباب للاحتفاظ بهذا الدعم.
ومن بين مشاكل وتطلعات الشباب تبرز قضية تطال العائلة المالكة من الداخل وتتمثل في خلاف الملك تشارلز الثالث مع ابنه الأصغر الأمير هاري الذي نشر مذكراته، بعنوان «سبير» أو «البديل» إضافة إلى مسلسل وثائقي على نتفليكس ومقابلات تلفزيونية، انتقد هاري قصر بكنغهام وعائلته في قضايا عدة، بينها «فشلها» في حمايته هو وزوجته الأمريكية ميغان من تدخل الصحافة في شؤونهما.
ومع ذلك، يعتقد البعض أن الضجة المثارة حول هاري ستصبح في طي النسيان مع استمرار أفراد العائلة المالكة في القيام بمهامهم وحضور المناسبات الرسمية ودعم المؤسسات الخيرية.
ويدرك الملك الجديد أيضا أن الصراع بين الملكيين والجمهوريين هو صراع قديم، حيث يذكر التاريخ أن الجد الأكبر له وهو الملك تشارلز الأول دخل في صراع مرير معهم تحول إلى حرب أهلية، أدت إلى إعدامه عام 1649 في لندن وعلى مقربة من كنيسة وستمنستر. كما بقي تشارلز الثاني ملكا فقط على اسكتلندا بعد إعدام والده قبل أن يستعيد عرش إنكلترا وأيرلندا بعد حكم دعاة الجمهورية في الفترة الفاصلة. ورغم ذلك ترى آنا وايتلوك وهي أستاذة تاريخ الملكية في جامعة سيتي لندن أن النظام الملكي يبدو أكثر استقرارا اليوم، لكنها توضح أيضا بالقول: نعم انها مملكة مفككة في نواح كثيرة ومن الواضح ان هناك امكانية لبدء نقاش لم يكن يدور طوال عهد الملكة الطويل، وأن الشباب خصوصا بدأوا بالتساؤل عما يفعله النظام الملكي وما يستحقه وما إذا كان خاضعا للمساءلة».
وتخلص في تصريحها لوكالة «فرانس برس» إلى الاعتقاد بأن يستغرق الجدل حول الجمهورية وقتا طويلا وأنه «من غير الوارد إطلاقا أن يتبع تشارلز الخطى المروعة لتشارلز الأول».
أما الكاتبة المتخصصة في الشؤون الملكية تينا براون فتقول لرويترز: أعتقد أننا جميعا فوجئنا بالطريقة الجيدة التي بدأ بها الملك تشارلز.
لكن هناك معطيات تقول بأن الملك أقلّ شعبية من والدته أو ابنه وليام، كما أنّه لا يثير حماساً كبيراً لدى الشباب، وفقاً لاستطلاعات الرأي.
ويقول المعلّق الملكي ريتشارد فيتزوليامز، «من الصعب أن تكون ملهِماً عندما تكون في السبعين من عمرك، وبعدما كنت موجوداً منذ فترة طويلة وسط الكثير من التقلبات».
وأثارت صحيفة «الغارديان» تساؤلات كثيرة في جملة مقالات حول الطبيعة الغامضة للثروة والشؤون المالية للمؤسسة والعائلة المالكة، في وقت يواجه فيه البريطانيون أزمة كبيرة في تكاليف المعيشة.
وسجل البعض لقصر بكنغهام تأييده تحقيقا في صلة النظام الملكي بالعبودية وسط دعوات متزايدة للاعتذار والتعويضات.
ثلاثة أيام من الاحتفالات
وفي الوقت الذي يريد دعاة الجمهورية ايصال رسائلهم الاعتراضية، فإن أنصار الملكية يغتنمون الفرصة الاحتفالية بالتتويج بعد المراسم الدينية التي جرت أمس في السادس من أيار/مايو، وتستمر لثلاثة أيام يراد منها أن تعكس دور الملك في التطلّع إلى المستقبل، مع التجذّر في التقاليد والعظمة التاريخية كما يراها قصر باكنغهام. وتمت دعوة الناس للمشاركة في الاحتفالات التي تشهدها الأحياء، بما فيها حفلة موسيقية في قلعة وندسور في غرب لندن، بحضور 10 آلاف بريطاني تمّ اختيارهم عشوائياً. وهناك دعوة من العائلة المالكة إلى البريطانيين للقيام بأعمال تطوعية غدا الاثنين في الثامن من أيار/مايو، وهو يوم عطلة.
وشهد قسم التتويج، المكتوب منذ العام 1688 تغييرات على مرّ القرون. ومنها مثلا أن الملكة الراحلة إليزابيث الثانية أقسمت على أن تحكم «وفقاً لقوانينها» شعب المملكة المتحدة والدول الـ14 الأخرى التابعة للتاج، والدفاع عن الديانة الأنغليكانية التي يرأسها الملك. بينما يتميّز الملك تشارلز بخطاب يؤكد على التواصل تجاه كلّ الأديان. لقد طلب تشارلز الثالث أثناء اعتلاء العرش من الله أن يساعده ويكون في عونه، بعدما أقسم على الحكم بالعدل.
وأخيرا سيكون الاختبار الأكبر لتشارلز الثالث هو الحفاظ على الوحدة الترابية والسيادية للمملكة، التي بات كثيرون يخشون أن لا تبقى مملكة متحدة.
“القدس العربي”