هذه طبعة جديدة من «مذكرات هدى شعراوي» صادرة هذا العام عن سلسلة ذاكرة الكتابة التي تصدرها الهيئة العامة لقصور الثقافة، ويرأس تحريرها المؤرخ أحمد زكريا الشلق. ما أكثر ما قرأت عن هدى شعراوي وآخرها كتاب «وكشفت وجهها» الذي كتبتُ عنه منذ عام تقريبا، والذي كتبتْه بالإنكليزية حفيدتها سنية شعراوي وترجمته نشوى الأزهري.
الكتاب قدم له طارق النعمان، كما قدم للكتاب السابق – تقديما رائعا يتحدث فيه عن السردية النسوية والوطنية الكبرى، التي دشنت زمن الخروج بعد قرون ظلت فيها المرأة حبيسة جدران وعوالم مغلقة، ودراسة حداثية للمذكرات. تدخل في الكتاب لتعيش في حركة دافقة مع هدى شعراوي ولغتها طفلة وراشدة. تعرف كيف، رغم أنها ابنة الباشوات، تم تزويجها في الثالثة عشرة من عمرها من علي باشا شعراوي المتزوج وله أبناء من أخرى. كيف كانت طفلة في مشاعرها حتى إنها كانت سعيدة بالاستعداد لحفل الزواج ولا تعرف أنه لها. كانت تلعب. قبل ذلك تتحدث عن والدها محمد سلطان باشا، الذي توفي وهي في الخامسة من عمرها في أغسطس/آب عام 1884. دفاعها عن والدها الذي اتهم بخيانة عرابي يمكن قبوله، فكثير من الكتّاب نفوا عنه ذلك. لقد كان رأيه أن لا يتم عزل الخديوي توفيق فهذا سيدفع الخديوي للاستعانة بالإنكليز، وهذا ما حدث.
تتناول في المذكرات كل أو أكثر ما كُتب عن عرابي كذبا أو حقيقة، سواء من كتّاب أو من ابنائه مثل عبد السميع أفندي عرابي. أهمية ما كتبته هو استشهادها بما كُتب كاملا بنصه، وهذا ما ستفعله في كل الكتاب. هذه ميزة المذكرات التي قد لا تكون كاملة كما قال طارق النعمان، لكن في كل الأحداث تجد النصوص كاملة، ومن ثم تجد نفسك مقتنعا بما تقول، لأنها لا تأتي بالنصوص المؤيدة فقط، لكن بالنصوص المخالفة وتاريخ ومكان إصدارها في الصحف، وهذا ما جعل الكتاب ضخما. أربعمئة صفحة من القطع الكبير. لقد كان بيت سلطان باشا والدها بيتا للمثقفين والفنانين، وكان دخول الإنكليز وإعلان بقائهم صدمة عجلت بمرضه ووفاته. كانت لأبيها زوجة أخرى انجبت، وكانت بالنسبة لها أما أخرى فينادونها ماما الكبيرة. كانت سيدة شديدة العطف عليها وكانت هي تستاء أحيانا من تفضيل أخيها عليها، سواء من جانب الأم أو أهل البيت من خدم، فكان يقال لها أن لا تندهش فهو حين يكبر سيحمل اسم الأب، بينما حين تتزوج هي ستحمل اسم زوجها. كانت تقتنع أحيانا وأحيانا لا تقتنع. كانت أمها من أصول تركيه وأخوالها يعيشون في تركيا. رحلة جميلة مع تعليمها في البيت القراءة واللغة الفرنسية والعزف على البيانو الذي أحبته، والقرآن الذي ختمته وهي في التاسعة من عمرها، وكيف كانت تشتري الكتب خلسة وتميل إلى الشعر ومن ساعدها. حديث طفولي جميل عن تسليتها مع مربياتها في أداء أعمال المنزل، وشرح للمكان والجواري والعبيد، وعن كيد بعض النساء من البائعات اللاتي يتحدثن عمن بعن لهن ومحاولات نصب كثيرة، وحبها العظيم لأخيها رغم التمييز بينهما في المعاملة.
تنتقل الأسرة إلى حلوان أحيانا أو الرمل في الإسكندرية فيحضر المكان وتجلياته الباهرة، كما يحضر في كل رحلاتها. كيف بدأت أول محاولة لتوجيه السيدات إلى ما يهذب أفكارهن وينهض بهن، من خلال دعوتهن لزيارة المعارض الفنية. كان الفنانون الأجانب يعرضون بعض لوحاتهم ولوحات مشاهير فناني أوروبا في معارض فنية، وأسس الأمير يوسف كمال مدرسة الفنون، وظهر محمود مختار وغيره من الفنانين. ظهور كتاب قاسم أمين «تحرير المرأة» وكان من السيدات من يستنكرن الكتاب، كما تبكي الجواري على حياة الرق، وكيف كان الجهل وراء ذلك. في المذكرات حديث متفرق عما واجهه قاسم أمين من انتقادات وتقليل من شأن افكاره ومحنته مع الكثيرين. سنوات الخصام مع زوجها وأسبابه العجيبة، فقد كان قد وقع على إقرار ورقي لأمها أن لا يعود لزوجته القديمة، أعطته لها أمها في ظرف مغلق لم تفتحه ولم تدر ما به، لكنه عاد إلى زوجته. كيف عادت هي إليه بعد سبع سنوات ورُزقت بابنتها «بثنة» وابنها «محمد» وصار زوجها يعاملها معاملة طيبة.
تنفتح المذكرات على صور مشهدية رائعة للأحداث يوما بيوم. صراع المصريين مع بعضهم وانقسامهم، وكل ما هو معروف عن مسار الثورة بمكاسبها وخسائرها. محاولاتها لرأب الصدع بين الفرقاء ولقاءاتها بسعد زغلول أكثر من مرة، ولومها عليه تزمته في مواجهة المقابل له من المصريين.
شغلتها صحة ابنتها كثيرا فانقطعت تماما لعلاجها حتى بلغت السادسة من العمر ثم عادت للعمل العام. محاضرات ألقتها في الجامعة الأمريكية ونصوصها. التفكير في مدارس لتعليم البنات وما تم. السفر لفرنسا لأول مرة ووصف فني وأدبي لباريس وغيرها والحدائق والشوارع. كانت على اتصال دائم بالكاتبة الفرنسية مرغريت كليمان وأطلعتها على مشروعها في تأسيس نادٍ للسيدات، وحدث ووجد المشروع قبولا حسنا في أبريل/نيسان 1914. مرض ابنة أخيها ووفاتها، ما أثر فيها وفي أخيها كثيرا، وكان يعاني من ضعف فاقترح عليه الأطباء السفر إلى فرنسا فتركت أمها التي لم تستطع السفر لمرضها وسافرت معه. تفاصيل مرئية للرحلة كالعادة وكيف رأت الاستعدادات والحديث عن حرب مقبلة. بالفعل قامت الحرب العالمية الأولى وكانت رحلة العودة شديدة الصعوبة أشبه بالمتاهة. وفاة والدتها بعد وصولهم إلى الإسكندرية في أغسطس 1914. أحلام رهيبة راودتها. الروح الإنسانية العاطفية في الكتاب تتجلي دائما في المِحن والفقد، ومنها حزنها الشديد على وفاة ملك حفني ناصف «باحثة البادية». انتهت الحرب العالمية الأولي عام 1918 وأعلن الرئيس الأمريكي ويلسون مبادئه التي تعطي الأمم حق تقرير مصيرها، فنبدأ رحلة مع الكفاح المصري وثورة 1919. كيف بدأت وما جرى في مصر من صراع مع الإنكليز، وغير ذلك من تفاصيل بدءا من تكوّن الوفد المصري حتى النفي لسعد زغلول ورفاقه، واندلاع الثوة في الثامن من مارس/آذار عام 1919.
تنفتح المذكرات على صور مشهدية رائعة للأحداث يوما بيوم. صراع المصريين مع بعضهم وانقسامهم، وكل ما هو معروف عن مسار الثورة بمكاسبها وخسائرها. محاولاتها لرأب الصدع بين الفرقاء ولقاءاتها بسعد زغلول أكثر من مرة، ولومها عليه تزمته في مواجهة المقابل له من المصريين. تفاصيل مهمة أهم ما فيها هو نشر الحوارات والخطابات المتبادلة بينها وبين القادة، وسعد زغلول كتوثيق على ما تقول، وهو أمر يطول الحديث فيه. بموازاة ذلك استمرت الحركة النسائية من أجل تحرير المرأة، ومظاهراتهن ضد الإنكليز تأييدا لسعد زغلول ولمطلب الاستقلال، وكيف تعرضن للموت وواجهن الرصاص. استطاعت إنشاء لجنة الوفد المركزية للسيدات للمشاركة في الثورة، وما قدمته فيها، ثم تشكيل جمعية الاتحاد النسائي المصري للعمل على تعليم المرأة وتثقيفها. مؤتمرات عالمية سافرت إليها من أجل تحرير المرأة في العالم في بلاد مثل باريس وروما وأمستردام ونيويورك وواشنطن وغيرها. تفاصيل كل هذه اللقاءات، وما كتبته الصحف ونصوص كلماتها أو غيرها. كانت وغيرها دائما محل دهشة لأن بينهن محجبات والفكرة الشائعة في الغرب أنه حتى ثورة المصريين كان وراءها تزمت ديني. شرحت لهم كيف أن الحجاب الذي يثرن ضده ليس مجرد غطاء من القماش، لكنه حبس المرأة في البيت وعدم تعليمها وتزويجها مبكرا والتعدد في الزوجات. من خلال هذا النضال في الداخل والخارج تعرف أهداف حركتها وحركة النساء معها مثل سيزا نبراوي ونبوية موسي وإستر فهمي وغيرهن، وما استجابت له الوزارات وما تلاعبت به مثل سن الزواج، وتأكيدها على أن القرآن وهو يقرّ التعدد النسائي قيّده بالآيات عن صعوبة العدل بينهن، ومن ثم هو أمر مستحيل. غير ذلك كثير مثل أول من دخلن كلية الطب وأول من قادت الطائرة بالأسماء وكيف دخلت المرأة الجامعة مع طه حسين ولطفي السيد، بعد أن انفتح لها التعليم. تنتهي من الكتاب وقد قطعت رحلة فكرية ومرئية رائعة مع هدى شعراوي والحركة النسائية ومع الوطن. ولا تفعل مثلي وتسأل نفسك كيف انفتح الوطن للنساء، بينما تنفتح المعتقلات الآن لأي صاحبة رأي مخالف للحكم.
روائي مصري