نشرت صحيفة “واشنطن بوست” مقالا للصحافي إيشان ثارور، قال فيه إن المشاهد الكئيبة راها الجميع، فقد كان رئيس النظام السوري بشار الأسد يبتسم ابتسامة عريضة وهو يسير على أرض المطار بعد هبوطه في مدينة جدة السعودية.
واستقبله مسؤولو الحكومة السعودية بعباءاتهم بمن فيهم ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، ورحّبوا به بأحضان دافئة. هناك جلس الأسد مع قادة الدول العربية الأخرى، ورحّبوا بعودته إلى الحظيرة.
كان ذلك يوم الجمعة بالنسبة للأسد، الذي مر بإعادة تأهيل يمكن القول إنها استغرقت سنوات، لكنها لم تكن أقل إثارة للجدل بالنسبة لمنتقديه وخصومه.
الأسد استخدم ظهوره في قمة جدة ليصور نفسه مرة أخرى على أنه دعامة للاستقرار في منطقة مضطربة
فقبل عقد من الزمن، كان المسؤولون في دول الخليج يتآمرون بطرق مختلفة للإطاحة به. ضخّوا الموارد والأسلحة في الحرب الأهلية الدائرة في سوريا، ودعموا مجموعات متنوعة من الثوار المعارضين للأسد. في وقت وجّه الأسد بنادقه إلى شعبه وقصف المدن السورية وأطلق العنان للأسلحة الكيماوية على المدنيين. عندها قرر القادة العرب تعليق عضوية النظام وأخرجوه من جامعة الدول العربية “مجموعة الأخوة” التي طالما احتضنت ولوقت طويل الديماغوجيين والمستبدين من مختلف المشارب، بحسب قول الصحيفة.
وأصبح الأسد يسيطر بحكم الواقع على غالبية بلاده، في حين أن الثوار السوريين وأنصارهم خاضعون للقمع والتشتت. لقد حولت القوى الإقليمية التي استثمرت ذات مرة في الإطاحة به، اهتمامها وأولوياتها إلى مكان آخر.
ونقل الكاتب ما نقلته الصحيفة عن ناشطة سورية: “لقد خذلنا المجتمع الدولي تماما”. وقالت أخرى وهي منفية سورية في ألمانيا: “بدلا من تحميل الأسد المسؤولية عن جرائمه الشنيعة، يتم الترحيب به وحتى مكافأته، كما لو أن السنوات الـ12 الماضية من المعاناة وإراقة الدماء لم تحدث أبدا”.
وقال الكاتب إن الأسد استخدم ظهوره في جدة ليصور نفسه مرة أخرى على أنه دعامة للاستقرار في منطقة مضطربة. وقال في الاجتماع: “من المهم ترك الشؤون الداخلية لأبناء البلاد لأنهم هم الأقدر على إدارتها”، مكررا اللازمة التي لطالما تغنى بها، متجاهلا مقتل مئات الآلاف من السوريين تحت حكمه، واختفاء عشرات الآلاف في السجون، وتشريد الملايين بينما لا يزال معظم البلد الذي مزقته الحرب بحاجة إلى المساعدة الإنسانية. وقدم الزلزال المدمر الذي ضرب جنوب تركيا وأجزاء من شمال سوريا في شباط/ فبراير، للأسد طريقا جديدا لتسريع التقارب مع الجيران المتعاطفين.
وفي خطابه، أبرز الديكتاتور السوري خلافاته الأيديولوجية، ووجّه انتقادا قويا لتركيا المجاورة، وحذر من “خطر الفكر العثماني التوسعي”.
هذا الخطاب، إلى حد ما، هو مخزون وتجارة بعض نظراء الأسد في جامعة الدول العربية. في الأشهر التي سبقت وصول الأسد إلى السعودية، قدم نظامه مبادرات ناجحة لبلدان مثل تونس ومصر، وكلاهما عزز قادتهما الاستبداديين قواعدهما من خلال حملات القمع ضد الإسلاميين.
وبالنسبة للمضيفين السعوديين، فإن عودة الأسد إلى الحظيرة هي جزء من محاولة أوسع لتخفيف الاحتكاكات في الشرق الأوسط، بعد سنوات من الاستقطاب الجيوسياسي والحروب المدمرة والاضطرابات الاجتماعية. وعبّر ولي العهد عن أمله يوم الجمعة في أن تؤدي عودة الأسد إلى جامعة الدول العربية “إلى إنهاء أزمتها”.
بالنسبة للسعودية، فإن عودة الأسد إلى الحظيرة العربية هي جزء من محاولة أوسع لتخفيف الاحتكاكات في الشرق الأوسط
ما كان معروضا، بدلا من ذلك، كان بمثابة تذكير بالكراهية التي أججت ذلك: حضر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي القمة في جدة كمحطة توقف في طريقه إلى اجتماع مجموعة السبع في اليابان. ودعا القادة العرب إلى “إلقاء نظرة صادقة” على الحرب التي تخوضها روسيا في بلاده، مع انتهاكاتها لحقوق الإنسان والقانون الدولي. كل هذا في غرفة غصت بأصدقاء الكرملين وحلفائه، حيث كان الأسد، الذي أُنقذ نظامه بتدخل روسي في عام 2015، على رأس المجموعة.
ومع ذلك، فإن الحرب في أوكرانيا، والاضطرابات الواسعة التي أصابت الأسواق بسببها، أثارت انتباه المسؤولين في الشرق الأوسط لضرورة تحقيق مزيد من الاستقرار في عصر من عدم اليقين.
تعمل السعودية على إصلاح العلاقات مع خصمها القديم إيران وتبحث عن مخرج من الحرب في اليمن، حيث تعطي الأولوية لخططها الطموحة للتنمية في الداخل. ومن هنا، غرّد أتش هيليير، الزميل في مركز أبحاث “روسي” ببريطانيا، مشيرا إلى مفاتحات قدمتها دول مثل الإمارات لسوريا في وقت سابق: “الرياض لم تبدأ حملة التطبيع مع نظام الأسد، لكنها جرت معها، وبنشاط . وهذا كله جزء من حسابات الرياض بأن أجندتها المحلية تتطلب خفض التصعيد داخل المنطقة في أي ملف آخر، بحيث يتم تركيز الاهتمام الكامل للداخل”.
وقدم هيليير تحذيرا واضحا: “لكن إعادة دمج الأسد قد تعود لتطارد الرياض. لم يتغير الأسد، ولا يزال نظامه غير مستقر، حتى بدعم روسي وإيراني. هناك الملايين من السوريين الذين ينظرون إلى الأسد على أنه الأكثر وحشية في تاريخهم، وهذه ليست وصفة للأوقات السعيدة”.
نظر المسؤولون الأمريكيون والدبلوماسيون الغربيون بقلق إلى إعادة التأهيل السياسي للنظام السوري. ومع دعوة دول مثل الأردن والجزائر والإمارات إلى تخفيف العقوبات المفروضة على سوريا، يكثف المشرعون الأمريكيون جهودهم لتمرير جولة جديدة من التشريعات التي تعاقب نظام الأسد وتتجنب المزيد من التطبيع.
وقال مصدر خليجي مقرب من الدوائر الحكومية لرويترز: “الأمريكيون فزعون. نحن (دول الخليج) أناس يعيشون في هذه المنطقة، نحاول حل مشاكلنا بقدر ما نستطيع بالأدوات المتاحة لنا في أيدينا”.
وقد يعكس هذا التحول أيضا شهية الولايات المتحدة المتضائلة للتدخل في المنطقة، حيث تضع واشنطن أعينها على تحديات الشرق الأقصى، وتتخذ مقعدا خلفيا في الشؤون العربية. وقالت منى يعقوبيان، نائبة رئيس مركز الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المعهد الأمريكي للسلام، لقناة الجزيرة: “ربما تكون إدارة بايدن قد أجرت حسابات تفاضلية مفادها: حسنا، المنطقة تمضي قدما في التطبيع. ربما تكون القضية إذن هي الحصول على شيء مقابل ذلك، والحصول على تنازلات”.
من الممكن أن يمنح النظام السوري بعض التنازلات الدنيا في الأشهر المقبلة، لكن التنازلات الكبرى ليست من طبيعة الأسد
من غير الواضح مدى أهمية هذه التنازلات. يشير الخبراء إلى انتشار تجارة الكبتاغون غير المشروعة، وهي مخدرات يتم تصديرها بكميات ضخمة بشكل غير مشروع من سوريا الأسد.
ونقل الكاتب عن تشارلز ليستر، الزميل في معهد الشرق الأوسط بواشنطن، قوله: “من أجل جذب انتباه المنطقة، من الممكن تماما أن يمنح النظام السوري بعض التنازلات الدنيا في الأشهر المقبلة: معلومات استخبارية عن منظمات الكبتاغون بالتنقيط، وإبقاء وصول المساعدات عبر الحدود مفتوحا، وربما يمنح العفو لعدد ضئيل من المسجونين. لكن التنازل بأي شكل ليس من طبيعة الأسد، لذلك سيأتي وقت تصل فيه إعادة الارتباط إلى انسداد طبيعي، حيث تصبح الخطوة التالية، الاستثمار الاقتصادي الكبير، غير مقبولة دبلوماسيا أو تمنعها العقوبات الغربية”.
قال ويليام ويشسلر، المسؤول السابق في البنتاغون الذي يرأس برامج الشرق الأوسط في مركز “المجلس الأطلنطي” إن التطبيع مع النظام السوري يسير بخطى سريعة في الوقت الحالي. وتنظر الدول العربية “بتمعن لموقف الولايات المتحدة من التطبيع، وهو أن الولايات المتحدة لا تريد أن يكون لها بصماتها، ولا تريد دعمه، لكن الولايات المتحدة لن تفعل أي شيء لمنعه”.
“القدس العربي”