لا يمكن لبروز النظرية الأدبية أن يتحقق في أي حقبة من الحقب إلا بتطور المعارف والعلوم من جهة. وظهور الإبداعات الأدبية الجديدة التي تحقق تميزا، بل ثورة على الإبداعات السائدة من جهة أخرى. ولا يمكننا الحديث في السياق نفسه عن تحولات الدراسات الأدبية العربية، إلا في نطاق ما يمكن أن يعرفه الإبداع العربي من تحول وتغير.
يدفعنا هذا إلى اقتراح مفهوم «الإبدال الإبداعي» على غرار ما نعرفه عن الإبدالات التي تتحقق في العلوم والمعارف، بهدف تشكيل صورة دقيقة عما يجري في حقبة من الحقب الإبداعية، من سلطة يمكن أن يمارسها إبداع ما، فيفرض وجوده على المبدعين والباحثين، ويكون بذلك محفزا على تطوير النظر والعمل وتغييرهما. وتبعا لذلك يمكننا التساؤل مثلا، عن «الإبدال» الأدبي السائد عندنا حاليا، وما هي «النظريات» الأدبية العربية التي تواكبه؟ أم أننا نشتغل بلا إبدالات معرفية، ولا نظرية، فنبدع مثلا سردا بمواصفات لا تتأطر في نطاق أي إبدال كائن أو ممكن، ونمارس النقد السردي في غياب أي تصور أو تأطير يمكن أن يندرج في إبدال ما؟
تفرض علينا هذه الأسئلة نفسها لنعمل على استكشاف نوع «الإبدال» السردي العربي المهيمن، لنفكر في نطاقه نظريا وتطبيقيا حسب الوجهة التي تلعب دورا في تطوير تصورنا للسرد، عمليا ونظريا. لتوضيح هذه الفكرة، وما يمكن أن يتولد عنها، يمكننا العمل على التوقف على تاريخ الإبدالات الإبداعية، بإيجاز، للتحقق من هذا الاقتراح إذا ما سلمنا به، واتفقنا عليه، من جهة أولى، ومن جهة ثانية، ليكون بالنسبة إلينا، أساسا للانطلاق في تجديد رؤيتنا للدراسات السردية العربية، وما يمكن أن تنشغل به ليكون لها أثر في هذا الإبداع بكيفية ملائمة. فكما أن تاريخ الوسائط محدود جدا في تاريخ البشرية، يمكننا الانطلاق منه في تحديد الإبدالات الإبداعية، نظرا للدور الذي تضطلع به الوسائط في التحولات الكبرى التي عرفت في التاريخ، وسيجعلنا ذلك أمام استجلاء إبدالات إبداعية محدودة، تبعا لعلاقاتها بتلك الوسائط. سنعمل على اتخاذ الإبداع العربي مثالا لذلك، ويمكننا معاينته أيضا في أي إبداع إنساني، مع مراعاة التحولات التي تعرفها الثقافات في صيرورتها.
كان الشعر العربي قبل الإسلام «الإبدال الإبداعي» الذي فرض نفسه على الذائقة الجمالية العربية، ألم يعتبر «ديوان العرب» بامتياز بالمقارنة مع إبداعات أخرى؟ وبسبب هيمنة الشفاهة كان الحس المشترك هو السائد لدى المبدع والمتلقي معا، فلم تبرز «نظرية» جمالية أو شعرية بالمواصفات التي نتحدث بها عنها حاليا، بحيث يمكن أن تسهم في مواكبة ما كان يعرفه واقع التجربة الشعرية العربية. ومع ذلك فقد كانت «المفاضلات» بين الشعراء في أسواق عكاظ مثلا، دالة على ذلك الحس، وهو يبرز من خلال أقوال الشعراء المشهود لهم باحتلال موقع إبداعي، وهم يميزون بين الشعراء، ويضعونهم في مراتب أو طبقات. وكل الأقوال التي وصلتنا عنهم حول «الأوائل» الذي افترعوا أشياء جديدة دالة على ذلك، فهناك امرؤ القيس أول من بكى واستبكى، والمهلهل أول من هلهل الشعر، والذي يطرب، أو يغضب، أو يشرب، وما شابه ذلك من الأحكام الدالة على التميز والاختلاف، والذي يشكل قاعدة للاتباع ومسايرة «الإبدال» السائد.
لكن مع بروز الدولة والكتابة، سينافس النثرُ الشعرَ، في حقبة ثانية، فيبرز الصراع بين القديم والجديد، ويحاول الإبدال الجديد مع المحدثين اتخاذ صورة إبداعية جديدة مخالفة لما كان سائدا في الحقبة السابقة. وكان لبروز الكتابة أيضا دورها في إعطاء الإبدال الإبداعي صورة مختلفة، فبرز التمايز بين الشاعر والناثر، وكل منهما يرمي إلى بسط سلطته على التجربة الإبداعية، لقد مكن بروز الشعراء المحدثين، والكتاب من تطور الدراسة الأدبية العربية، فاتخذ النقد، والبلاغة مظهرا مختلفا عما كان عليه في المرحلة الشفاهية، وكان لهما معا دور كبير في التشكل والتطور، مواكبة لما عرفته الثقافة العربية، خاصة في القرن الرابع الهجري، من تحولات معرفية وعلمية، فاستفادت منها الدراسة الأدبية العربية في تطوير نفسها في علاقتها مع ما عرفه الإبداع الشعري والنثري معا. وكان من نتاج هذا التطور العام، أن برز نوع سردي جديد هو «المقامة»، فصار إبدالا إبداعيا جديدا، استمر فارضا نفسه في الواقع العربي مشرقا ومغربا. ويمكن ضرب مثال من الموشح الذي ظهر في الأندلس، فكان ذلك عاملا من عوامل تطور الفكر الأدبي العربي في تلك الحقبة. وبسبب التراجع الحضاري والثقافي العربي في حقبة لاحقة، تراجع الإبداع ومعه التفكير فيه.
مع عصر النهضة بدأت تظهر ملامح إبدال إبداعي جديد يمكن اختصاره مع ما عرف تحت مسمى البعث والإحياء، وما تلاه من صراع إبداعي ونقدي مع الرومانسية والواقعية في مرحلة لاحقة، وجاءت البنيوية في التجربة العربية مواكبة للتطور الذي عرفته الرواية العربية، في النصف الثاني من القرن العشرين، فصارت الإبدال الإبداعي المهيمن. ما هي ملامح الإبدال السردي العربي حاليا، وهل عندنا صورة عن كيفية جعل دراساتنا السردية مواكبة له؟
كاتب مغربي
“القدس العربي”