بيان القمة العربية الأخيرة واضح في تفاؤله. ولكنه في الوقت نفسه صريح في اعترافه بفشل المنظومة العربية عبر عقود من الزمن في تفادي السقوط في مشكلات كان يمكن تفاديها من غير الزج بالشعوب في طاحونة نزاعات غامضة عطلت عمليات التنمية وأهدرت ثروات عزيزة وأضرت بالأمن القومي. وهو ما لم يستفد منه النظام السياسي العربي الذي تهاوى في غفلة منه بالرغم من أنه قد جهز نفسه بأسلحة دفاع أمنية كان قد استعملها بطريقة خاطئة في مطاردة معارضيه كما لو أنهم غرباء وليسوا من أهل البيت.
كان درس الربيع العربي عنيفا بل ومدمرا. غير أن العنف الذي سبقه هو الذي مهد لوقوعه على هيئة زلزال لم تكن الفوضى إلا واحدة من صوره المتوقعة وكم سنكون سعداء لو سُمح لزعماء النظام السياسي المنهار بأن يقولوا كلمتهم الأخيرة وهم يرون الشعوب وقد تحررت من استبدادهم من غير أن تجد الطرق معبدة أمامها في اتجاه مصير، يمكنها من خلالها أن تتعرف على موقعها في عصر حُرمت من المشاركة في بنائه.
ولكن الفوضى ذهبت بكل شيء إلى العدم. لا تزال سوريا التي اُستقبل رئيسها في القمة تعيش نزاعا يضعها بين الموت والحياة، وكان البعض يأمل في أن يقول بشار الأسد كلمة عما حصل غير أنه لم يقل كلمة. دعا الآخرين إلى تفهم موقفه من غير أن يوحي بكلمة واحدة بأنه يتفهم موقفهم. لا يزال شعبه أسير التشرد والنزوح واللجوء والضياع والخوف من أجهزته الأمنية ولا يزال الشك يخيم على كل خطوة يقوم بها وقد سمح للإيرانيين بأن يحتلوا أجزاء من سوريا ليقيموا محمياتهم التي هي عبارة عن مستوطنات لا يمكن التخلص منها بيسر فيما لو اختفى الأسد ونظامه وهو أمر طبيعي لا تستغني عنه الشعوب الحية والشعب السوري منها.
قمة جدة وضعت النقاط على الحروف كما يُقال. ليست الصراعات المحلية هي الحل. فهي أكثر خطورة من العدو الخارجي. ولا ينفع السوادنيين على سبيل المثال في شيء ما يجري في بلادهم
تفاؤل القمة قائم على فكرة طي صفحة الماضي. وهو ماض لم يكن سعيدا، وليست العودة إليه إلا محاولة لتقليب المواجع. غير أن الواقع الملتبس في غير دولة عربية لا يمكن انتزاعه من ماضيه إلا بمعجزة. ذلك لأن العقل السياسي العربي بعد أن أصيب بلوثة العبث المجاني لم يعد يقبل إلا بعالم اللامعقول. وهو عالم لا يمكن تفسيره بمنطق سياسي وطني معاصر. ففي اليمن وفي ليبيا وفي سوريا هناك صراع على مَن يحكم وفي لبنان والعراق يتخذ التوحش الإيراني شكل ميليشيات مسلحة تسعى إلى أن تضع الدولة في قبضتها بشكل مطلق، وهناك في مصر وتونس أقليات لا تزال تحلم بعودة جماعات الإسلام السياسي إلى السلطة التي فقدتها.
“إننا في المنعطف الأخير. إما أن نكون أو لا نكون” ذلك حقيقي. لم يكن المطلوب أن يُعلق جرس القمة في رقبة أحد بعينه. الشعوب معنية أكثر من غيرها بالخطر. ستكون حصتها في الخطأ أكبر مما تتوقع. فبنية النظام السياسي في العراق ومصر وتونس ولبنان تقع ضمن مسؤوليتها حتى وإن كانت الديمقراطية صورية في بعض حالاتها. فشل النظام السياسي هذه المرة يُحسب على الشعوب. الاستبداد هو صناعة شعبية أولا وأخيرا.
حين تبنت القمة العربية شعار “الأمن والتنمية” فلأنهما الضرورة التي تنقل المجتمع من مرحلة الخوف والاستهلاك إلى مرحلة الثقة والإنتاج. وهي مرحلة سبق للعالم العربي أن عاشها بيقين ثابت مزين بشعارات ثورية أفسدها سلوك الأنظمة البوليسي. قبل عقود كانت مصر والعراق دولتين رائدتين في مجال التنمية وكان أمنهما الداخلي والخارجي يُقاس باحترامهما دوليا. وبالدرجة الأولى فإن بيان القمة يستحضر تلك الحالة في تفاؤله.
أكبر من الواقع ولكنه ليس مطلبا خياليا. وضعت قمة جدة النقاط على الحروف كما يُقال. ليست الصراعات المحلية هي الحل. فهي أكثر خطورة من العدو الخارجي. ولا ينفع السوادنيين على سبيل المثال في شيء ما يجري في بلادهم. فالنزاع بين العسكر على الحكم لن يقدم للشعب شيئا بقدر ما يؤذيه ويدمر حيويته. ما يحدث في السودان هو تكرار لما يحدث في ليبيا واليمن وسوريا. القوي يدمر الضعيف والشعب يدفع الثمن. ودرس القمة يستنكر ما يحدث. عليكم أن تبحثوا عن حلول أخرى. حلول تقي دولكم شر التمزق وتحفظ لشعوبكم استقرارها وأمنها وتفتح الطريق في اتجاه التنمية التي تخلق مواطنا إيجابيا عاملا.
“صحفة العربي”