كثيرا ما تصيبنا الدهشة من أنفسنا حينما نشاهد بإعجاب الأفلام الرومانسية القديمة، التي تتناول قصص عشق أو حتى تتعلق بحكايات إخلاص ووفاء سامية بين الأصدقاء، أو أفراد العائلة، فالرومانسية ليست فقط قاصرة على حكايات العشق، لكن يقصد بها جميع العلاقات التي يكون فيها التعبير عن الحب بجميع أشكاله هي الأساس؛ سواء أكان بين الأبناء والوالدين، أو موجها للوطن، أو حتى حب فعل الخير.
بيد أن السائد حاليا دراما عشق من نوع خاص، بالتحديد «عشق العنف والقوَّة» كما لو كانت نظرية الانتخاب الطبيعي لداروين، التي تقوم على مبدأ «البقاء للأصلح» الذي تم تحريفه إلى «البقاء للأقوى» قد صارت ناموسا ومثالا يحتذى به، وللإنصاف، قد تتخلل أيضا الدراما العنيفة، بعد العقد الأول من الألفية الثالثة، مشاهد رومانسية لتزيد من عمق الشخصية وتربطها بالواقع؛ إلا أنها تمُر سريعا دون أن يكون لها عمق ولا تؤثِّر أيضا في سير الأحداث، ومن ثمَّ، يجد المشاهد أنها مقحمة وتخدم السياق الدرامي فقط، دون أن تمسُّ مشاعره وتجعله يتماهى مع الشخصيات. وأفلام الحركة التي ظهرت بقوَّة مع بداية ثمانينيات القرن الماضي، كان قوامها حكاية رومانسية تنبثق من خلالها الأحداث، وكان المشاهد نفسه يتعاطف مع الشخصيات، وتموج به المشاعر نفسها التي تتكاتف فيها الحبكة الدرامية وأداء الممثلين لخلق حالة من التماهي، تجعل المشاهد يتناسى واقعه ويشعر بأن وجدانه قد انتقل إلى واقع الفيلم، ليتقاسم الأدوار مع صنَّاع الفيلم، وفي الوقت نفسه، يتمنَّى المشاركة في سير الأحداث. ومن ثمَّ، كثيرا ما كان يطرق السمع انفعال المشاهدين وصراخهم الموجَّه لأبطال الفيلم، كي يفعلوا أمرا أو يتلافوا خطرا؛ وتلك حالة صارت شبه منقرضة.
ومن أجمل الأمثلة التي يمكن مقارنتها في ذاك السياق فيلم «ضربة شمس» (1978) للفنَّان نور الشريف، وأحد أفلام الفنَّان عادل إمام منذ مستهل الثمانينيات، وحتَّى نهاية التسعينيات، مثل «المشبوه» (1981) و»حب في الزنزانة» (1983) و»النمر والأنثى» (1987) وغيرها العديد من الأفلام التي تشاطر فيها القصَّة الرومانسية السياق الحركي العنيف، لصناعة فيلم مميَّز يحفر بصماته على جدار الذاكرة، ويضع عليها ختم عدم القابلية للنسيان.
ويعدّ «فيلم ضربة شمس» من الأفلام الفريدة في السينما العربية التي حققت نجاحا جماهيريا وفنِّيا كبيرين، على الرغم من صناعته وعرضه في نهاية سبعينيات القرن الماضي، حينما كانت الحبكة الرومانسية لها اليد الطولى. أمَّا الأغرب، فهو مجرَّد فيلم شبه صامت تماما، في ما خلا بعض المشاهد التي تتخللها جمل حوارية شديدة الاقتضاب لتوضيح بعض الأمور التي يتعذَّر على المشاهد أن يستنبطها من سير الأحداث. وعلى الرغم من أن الفيلم مصنَّف ضمن فئة أفلام الحركة، لكن تتداخل فيه قصص رومانسية عميقة، تعبِّر عن العشق والصداقة والوفاء والالتزام بالواجب، مع النسيج الحركي، وجميعها يفهمها المشاهد، دون أن يكون بحاجة لسماع كلمات تعبِّر عنها وتوضِّحها. وأشدّ نُسُق الإثارة هي تماهي المشاهد مع وتيرة الأحداث والقصص الرومانسية المُحاكة في إطار حركي لا يهدأ، مع توليد القدرة على التعاطف مع أبطال كل قصَّة على حدا. والنجاح الذي يحققه هذا الفيلم في كلّ مرَّة يُعرَض فيها سواء على الشاشة الصغيرة أو الإنترنت، يؤكِّد أن مثل هذا الصنف من الأفلام لو تمّ طرحها في هذا العصر في دور العرض بالأبطال أنفسهم وأسلوب الإخراج نفسه، لسوف تحقق النجاح الجماهيري نفسه، الذي يشتمل حاليا على فئات أكثر من المراهقين والكبار المتشوِّقين للدراما العميقة التي يتكاتف فيها الإبداع في الإخراج مع الحبكة والقدرة المدهشة لجميع الممثلين، بلا استثناء، على تأدية أدوارهم بصورة جاذبة ومبتكرة، حتَّى لو كان الدور ثانويا؛ الفيلم العظيم محْكَم الحبكة يجعل من أي دور، سواء أكان ثانويا أو هامشيا، دورا أساسيا ولا يمكن نسيانه.
أمَّا بالنسبة لأفلام الفنَّان عادل إمام الرومانسية الحركيَّة، فنجاحها المنقطع النظير، حتى يومنا هذا، كان السبب فيها وجود حبكة تتغلغل في نسيج المجتمع ممزوجة بإطار حركي يخدم السياق الدرامي.
ويجب عدم إغفال الدور العظيم للمخرج محمد خان، الذي كان بمثابة بطل رئيسي للفيلم برؤيته المبتكرة، التي تحاكي أفلام كبار المخرجين العالميين أمثال مارتن سكورسيزي Martin Scorsese وكوينتين تارانتينو Quentin Tarantino. فقد طرح فكرة غريبة بأسلوب جديد، ولم يكن همُّه النجاح التجاري، بل تقديم رؤية مبتكرة ترقى بذوق المشاهد. بيد أنَّه، في الوقت نفسه، راعى أن تكون الفكرة مفهومة لدى جميع فئات وطبقات المشاهدين، ومن السهولة لأن يستوعبها الجميع، لكن تكْمُن العظمة الحقيقية في أن طبقات النسيج الدرامي الرومانسي عالية الجودة، تجعل كل فئة وكل طبقة تفهم سير الأحداث من خلال وجهة نظر قريبة لوعيها ووجدانها الرومانسي.
أمَّا بالنسبة لأفلام الفنَّان عادل إمام الرومانسية الحركيَّة، فنجاحها المنقطع النظير، حتى يومنا هذا، كان السبب فيها وجود حبكة تتغلغل في نسيج المجتمع ممزوجة بإطار حركي يخدم السياق الدرامي، ولا يجور على رومانسية الحبكة الدرامية للأحداث، وأحد أمثلة هذه الأفلام، وإن كانت جميعها تستحق الدراسة والتحليل، هو «فيلم النمر والأنثى» الذي يتميَّز بحبكة رومانسية متعددة الطبقات وشديدة التشابك والتعقيد؛ حيث إن قصَّة العشق الرئيسية بين البطل والبطلة تفوقها رومانسية حب الأم لطفلها، وحب الوالدين، وحب الوطن والإخلاص في التفاني لأداء الواجب، والشفقة، والتعاطف، والصداقة الحقيقية بين الرئيس (الضابط) ومرؤوسه (العسكري) رغم تفاوت المناصب. أمَّا أهم جانبين عبقريين في تلك الحبكة الرومانسية الفريدة، فكانت القدرة على حثّ المُشاهد على أن يصدِّق أن الضابط الغليظ القاسي شخص رقيق يحنو على طفل يعلم تماما أنه ابن امرأة كانت تزاول أعمال منافية للآداب، على الرغم من محاولاته لإخفاء ذلك؛ وكأن هذا تمهيد لتصديق نشوء قصَّة حب بين الضابط و»فتاة الآداب» التي كان يحتقرها، لكنه في ما بعد يحتفي بها ويعتبر صغيرها ليس فقط ابنا له، بل لبنة رئيسية في جدران قصَّة العشق.
وعلى التوازي، يلاحظ أن المشاعر الرومانسية الأبوية نفسها يحملها المجرم للفتاة التي اكتشف أنها ليست ابنته، بل ظهر على استعداد أن يسامحها على تلاعبها به، لمجرَّد معرفته أنها كانت مغلوبة على أمرها. وعلى هذا تسيطر على مسار الأحداث شخصيات رمادية تجعل الحبكة الرومانسية متعددة الطبقات، ولها القدرة على أن تمسّ جميع شرائح المجتمع، بلا استثناء. وعلى هذا، قد يكون سبب اختفاء الرومانسية هو عدم القدرة على حياكة حبكة يمكن تصديقها في عصر أصبحت فيه الغلبة للسرعة وللعنف، لكن يجب الأخذ في الحسبان أن المشاعر الإنسانية لا تختلف بمرور الأزمنة، والدليل على هذا دراما شكسبير والأفلام التي ما زالت تستطيع النفاذ من جدران الشعور.
كاتبة مصرية
“القدس العربي”