ليس من المحتمل أن يشن الأوكرانيون هجوماً واسع النطاق، أو ما عرف بالهجوم المضاد الكبير، على القوات الروسية. فالدعاية لهذه العملية هي جزء من تكتيكات حرب، هدفها الأساسي استنزاف القوات الروسية، وحالة الاستنفار الدائم بانتظار العملية المرتقبة هي عملية استنزاف سلبي تتكامل مع عمليات الاستنزاف الإيجابي. ويمكننا القول أن الاستراتيجية المرسومة والمدعومة والممولة غربياً لأوكرانيا، هي تثبيت القوات الروسية في منطقة القتل أطول مدة ممكنة، بهذا المعنى يصبح كل يوم إضافي من القتال في أوكرانيا أمراً مفيداً للغرب، لا كما يُظنّ بأن خبراء حلف الناتو يخططون لكسر سريع ومفاجئ لروسيا، أو أنه يستعجل إعلان هزيمتها.
فعلى الرغم من الضجيج الذي لا يهدأ حول بدء أوكرانيا هجومها الشامل، إلا أننا لم نشهد شيئاً من هذا القبيل حتى الآن على خطوط الجبهة الرئيسية، ولا على خطوط الدفاع التي حصنها الروس بشكل فائق. ونعتقد بأن من يخططون لعمليات الجيش الأوكراني لن يجازفوا بدفع القوات الواقعة تحت أيديهم لتحطيم تلك الخطوط، فالثمن سيكون باهظاً جداً. بدلاً من ذلك يعملون بهدوء على إفراغ تلك الخنادق والتحصينات الروسية من المقاتلين والذخائر، ومن إرادة القتال، وعند ذلك يمكن للجنود الأوكرانيين تجاوزها من دون تكاليف بشرية. لكن هذا الامر سيحتاج إلى شهور طويلة من العمل التكتيكي، وليست لدى الغرب أسباب لعدم الانتظار.
الفارق الكبير في حجم القوى البشرية، بين الروس والأوكرانيين، سيمنع أي مُخطط استراتيجي من زج الجيش الأوكراني في صراع يعتمد على عدد المقاتلين، ويدفعه للتركيز بدلاً من ذلك على التفوق التقني والاستخباراتي الذي يملكون فيه، بفضل الدعم الغربي، تميزاً نسبياً. وهذا يترجم ميدانياً بالاعتماد أكثر فاكثر على الضربات التكتيكية الدقيقة جداً وبعيدة المدى، وتأجيل أي عملية اقتحام بالجنود إلى حين خلوّ الجبهات، كما حدث الصيف الماضي، عندما شنّ الجنود الأوكرانيون هجمات كبيرة واستعادوا مساحات شاسعة، لكن ليس قبل تدمير كافة مستودعات الذخيرة في الخطوط الخلفية بشكل سريع، واستنزاف احتياطي القوات الروسية في خط الجبهة بمناوشات خاطفة، ثم اقتحموا خطوط القتال حيث احتشدت مئات الدبابات والمدافع الروسية العزلاء، التي لم تكن لديها قذيفة واحدة تطلقها.
كما يطرح طول الجبهة التي فرضها الروس، والذي يزيد عن 1100 كيلومتر، تحدياً إضافياً للأوكرانيين والتخطيط المركزي لعملياتهم، فأي محور يتم اختياره للهجوم، وتركيز قواتهم فيه بالضرورة، يعرضهم لخطر التشتت أو الانكشاف وانخفاض كثافة وكفاءة القوات في محاور أخرى، ولن يتردد الروس في انتهاز أي فرصة سانحة للتقدم في مواضع كثيرة، حتى ولو خسروا في محور أو اثنين.
يفتقد الجيش الأوكراني اليوم أيضاً إلى جهود نخبه الشابة، فهي بمعظمها إما تخضع لعمليات تدريب على الأسلحة الغربية المتطورة، أو في طور استكشافها في ميدان المعركة، ومن المعروف أن الأسلحة الجديدة المعقدة تحتاج إلى ممارسة القتال بها لفترة من الزمن لاستيعابها والاعتياد عليها في ميدان المعركة بصرف النظر عن مقدار التدريب الذي تلقاه الجنود في المعسكرات الخلفية. وقد كشفت صور روسيّة عن تدمير ثلاث من دبابات ليوبارد الألمانية وعشر عربات برادلي أميركية من التي حصل عليها الجيش الأوكراني مؤخراً، ومن الواضح أن نقص الخبرة لعب دوراً في ذلك. إن هجوماً أوكرانياً لا يمكن أن يبدأ قبل حشد وتعبئة كل مَن تدرب على الأسلحة الغربية الحديثة، الأمر الذي يجعل بدء الهجوم فيما هم في مهمات تدريب خارج البلاد، مثل المرشحين لقيادة طائرات إف-16، أمراً مستبعداً تماماً.
إن ما تخلص إليه قراءة يوميات المعارك في أوكرانيا تفيد بعكس ما يتم الترويج له إعلامياً بشكل يتعمد الإثارة. فالأوكرانيون ليسوا جاهزين لهجوم كهذا، ولا الداعم الغربي يرغب في إنهاء هذه المعركة، ولا يرغب أصلاً في انسحاب الجيش الروسي من المحرقة. لكن المدهش أن بوتين لم ير حتى الآن الجدار الذي يتقدم سريعاً للارتطام به، فحربه مع أوكرانيا ستستمر حتى سقوطه او إسقاطه في نهاية المطاف، وهو لن ينجو، حتى لو احتل أوكرانيا بكاملها ذات يوم.
“المدن”