هل قرّرت موسكو الانخراط بمعركة إخراج القوات الأميركية من سوريا؟ هذا هو السؤال المطروح في بعض العواصم العربية والإقليمية، في ضوء تكرار حوادث التحرّش العسكري الروسي بالقوات الأميركية، لاسيما استخدام الطيران الحربي الروسي لـ “ردع” الطائرات المسيّرة الأميركية التي تنفّذ مهمّات في شرق سوريا، تحت عنوان مواجهة تنظيم “داعش”.
تكرّرت تحرّشات الطيران الحربي الروسي بالمسيّرات الأميركية التي تُعتبر فائقة التطور والقدرات العملانية في مواجهة “داعش “، وفي تحقيق تفوّق تكتيكي من الجو على مختلف الميليشيات الإيرانية العاملة في الشرق السوري إنطلاقاً من معبر “البوكمال”، بالتنسيق مع قوات النظام السوري التي تستفيد من “ردع الأميركيين” أقلّه على مستوى المسيّرات ذات الفعالية الكبيرة في رصد التحرّكات على الأرض ومراقبتها لمدة طويلة .
وبإمكان المسيّرات التي حشدها الأميركيون منذ مدة طويلة، أن توجّه ضربات لتجمّعات مسلّحة، ولمخابئ مسلحين ومعدّات الميليشيات، وأهمها منصّات الصواريخ التي تشكّل تهديداً للقوات الأميركية البالغ عددها في سوريا حوالى 900 جندي. لكن ما هو أهم من محاولة الردع الروسية الجارية على ما يبدو بإصرار، إلى حدّ أنّ التحرّشات حصلت مرتين في أقل من يومين، أنّها تهدف إلى إضعاف قدرات الأميركيين الاستخبارية على الأرض، وبالتالي عرقلة نظام عمليات الكومندوس التي تقوم بها القوات الأميركية بين الفينة والأخرى.
وفي هذا المجال، تشكّل “المناورات الجوية” المشتركة الروسية–السورية التي أُعلن عن انطلاقها يوم الأربعاء الماضي، إعلاناً شبه صريح عن أنّ روسيا التي دفعتها الحرب على أوكرانيا إلى خفض منسوب حركتها في سوريا، قرّرت أن تعيد ترميم وجودها وهيبتها على المسرح السوري، أولاً من خلال زيادة دعمها لحركة القوات العسكرية التابعة للنظام السوري، لاسيما في الشمال السوري، حيث النفوذ التركي، وثانياً من خلال تعزيز التناغم الميداني بين القوات الروسية والسورية على حدّ سواء .
الرسالة هنا مزدوجة الأهداف وتستبطن غموضاً موضوعياً: إنّها رسالة إلى الأميركيين والغرب عموماً، أنّ روسيا موجودة في الساحة السورية، على عكس ما يُحكى عن اتجاهها إلى الانسحاب بسبب تضاؤل قدراتها العسكرية المنصبّة على أوكرانيا، تزامناً مع استخدام المسرح السوري المفتوح والمشرّع على تدخّلات قوى إقليمية ودولية عدة، كورقة يمكن رفعها بوجه الغرب الداعم لأوكرانيا في حربها ضدّ روسيا. بمعنى، أنّ المضايقات في سوريا هي أحد الردود على الدعم الغربي لأوكرانيا الذي يكلّف روسيا ثمناً باهظاً في العديد والعتاد، وبالتالي التضييق على روسيا في المسرح الأوكراني يقابله التضييق على الغرب، وبالأخص أميركا، في مسارح دولية أخرى يتقاسم فيها الطرفان الساحة و المصالح الاستراتيجية.
وفي مكان آخر، هي رسالة يريد الروس عبرها “دغدغة” الأميركيين وطمأنتهم إلى أنّ المسرح السوري لم يخلو بالكامل للتمدّد الإيراني. بمعنى أنّ أميركا، والغرب، وخصوصاً إسرائيل، لا ينظرون باطمئنان إلى خروج روسيا من سوريا.
فعلى الرغم من الصراع الكبير في أوكرانيا، يؤثر الغرب التعامل مع موسكو على التعامل مع إيران وميليشياتها المنتشرة في سوريا، والتي تُقدّر أعدادها بما يزيد على 80 الفاً .
وأخطر ما في الأمر، أنّ الوجود الإيراني في سوريا يترافق مع حملة تشييع منهجية وواسعة، وتمدّد عقاري في دمشق وريفها، وفي الشمال، عبر حملة شراء واسعة أيضاً، أضف إلى ذلك، دفع الحكومة السورية إلى التوقيع على عقود تجارية ضخمة ستربط سوريا إقتصادياً لعقود قادمة بإيران.
وأخيراً وليس آخراً، مواصلة العمل بشكل منهجي على إتلاف مئات الآلاف من وثائق الملكية الخاصة العائدة لمواطنين سوريين غادروا البلاد، أو نزحوا إلى الشمال، ومعها المئات من سجلات النفوس. كل ذلك في سياق عملية للانقلاب على الوقائع الديموغرافية. ولذلك، إذا كان أمام الغرب أن يختار بين الحرب الروسية الجوية على الشمال السوري والتحرشات بالقوات الأميركية، وبين ترك الإيرانيين وحدهم أسياد الساحة، فإنّهم سيختارون الصبر مع التحرّشات الروسية، التي تبقى بالرغم من كل شيء، محدودة الأثر استراتيجياً. إنما يمكن القول إنّ الرئيس فلاديمير بوتين “الخارج” من أزمة خطيرة في روسيا، يرسل إشارات بأن لا تغيير تحت الشمس!
خلاصة القول، إنّ موسكو لا تخوض معركة إخراج أميركا من سوريا. فهي غير قادرة حتى لو أرادت. إنّها تخوض معركة لإعادة فرض هيبتها بين القوى الإقليمية والدولية. وسوريا صندوقة بريد!
“النهار العربي”