عشية توجهه إلى فيلنيوس للمشاركة في قمة الناتو وضع أردوغان شرط تحريك مفاوضات انضمام بلاده إلى الاتحاد الأوروبي، كي يوافق على انضمام السويد إلى حلف شمال الأطلسي. كان أردوغان واضحاً بالقول: “منذ أكثر من 50 عاماً تنتظر تركيا على أبواب أوروبا، ومعظم دول الاتحاد الأوروبي صاروا أعضاء في الناتو. أقول لهذه الدول من هنا، وسأقولها في القمة: افتحوا الأبواب أمام انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، ونحن نفتح الباب أمام السويد للانضمام إلى الحلف كما فتحنا الباب أمام فنلندا”.
أتى تصريح أردوغان مفاجئاً، هو الذي كان قد أعلن بغضب قبل سنوات عن توقف بلاده عن السعي للانضمام إلى الاتحاد، متهماً الأوروبيين بعرقلة عضوية تركيا فيها على نحو لم يحدث مع أي مرشّح آخر لنيل العضوية. دخل أردوغان قمة الناتو وهناك حظر على استيراده الأسلحة ولوازمها من قبَل عشر دول غربية منذ عام 2019، على خلفية شنّه عملية عسكرية في سوريا ضد القوات الكردية، ومع مفاوضات متوقفة منذ عام 2016 لنيل عضوية الاتحاد الأوروبي، وخرج من القمة بوعد رفع العقوبات الخاصة بالسلاح ووضع خريطة طريقة “مدعومة أمريكياً” للانضمام إلى الاتحاد.
يمكن الحديث عن رضوخ الغرب لابتزاز أردوغان، مثلما يمكن الحديث عن تنازله عن شرط ملاحقة السويد الإرهابيين على أراضيها “ويقصد المنضوين في حزب العمال الكردستاني”، وهو ما أثار انتقادات معارضيه في تركيا. بل يمكن التشكيك بجدية الغرب وأنقرة في الوعود المتبادلة، بما أن أجواء انعدام الثقة هي السائدة بينهما منذ سنوات. لكن في المقابل يمكن وضع عودة أنقرة إلى طرق باب الاتحاد الأوروبي بمثابة عودة حزب العدالة الحاكم إلى عهوده الأولى، حين كان السعي للانضمام إلى أوروبا من ضمن سلة متكاملة فيها تصفير للمشاكل مع المحيط، وفي الطليعة منه اليونان الأوروبية.
وبعيداً عما تثيره شخصية أردوغان الإشكالية، من الإنصاف عدم تحميل أنقرة وحدها مسؤولية تعثّر أو عرقلة انضمامها إلى الاتحاد ثم تجميد المفاوضات برمّتها. فهناك في أوروبا قوى لا تريد انضمام تركيا، حتى إذا استوفت كافة الشروط بجدارة، وأقصى ما تعرضه هذه القوى كبديل هي شراكة بين أنقرة والاتحاد تبدو غايتُها الأهم التخلصَ نهائياً من طلب العضوية التركي. بين هذه القوى المعترضة ثمة حقاً من لا يريدون بلداً مسلماً ضمن الاتحاد، ويريدون للأخير البقاء كنادٍ مسيحي، وثمة من يضيف إلى ذلك العاملَ الديموغرافي إذ ستصبح تركيا في حال انضمامها البلد الأكثر عدداً بالسكان مع تبعات ذلك التمثيلية، ومع تراجع متوقع في النمو السكاني للعديد من الدول الأوروبية.
على الضد من الذين يريدون بقاء الاتحاد كنادٍ مسيحي، من شبه المؤكد أن قبول تركيا في عضويته سيساهم في تخفيف التوتر بين بعض الدول الغربية والإسلاميين. نذكر هنا فرنسا في طليعة الدول المتحفّظة على انضمام تركيا، وفي طليعة البلدان الغربية التي يُطرح فيها الخطر الإسلامي، حتى تكاد المنازلة بينها وبين الإسلاميين تبدو استئنافاً لموقعة بواتييه! ما هو مطروح ضمناً أن أوروبا إذا لم تكن قادرة على استيعاب الإسلام التركي المعتدل فهي لن تستوعب المسلمين على الإطلاق، بمن فيهم أولئك الحاصلين على الجنسيات الأوروبية أو الذين يقيمون في الغرب.
أما في حال قبول تركيا فهي رسالة إلى الإسلاميين، وإلى عموم المسلمين، مفادها أن معركة الغرب القيمية هي حقاً معركة ضد التطرف لا ضد دين أو ثقافة بعينها. ننوّه بأن القبول متبادل، فالاتحاد الأوروبي لا يقبل تركيا إلا بشروط تتناسب مع قواعده وقوانينه، ما ينطوي على قدرة بلد مسلم على الوفاء بالمعايير الأوروبية لجهة حقوق الإنسان وسواها. وهذا يعزز من اعتدال النموذج التركي، ويقدّم مثالاً للإسلاميين في عموم المنطقة. من المعتاد تقديم الغرب بوصفها متقدّماً، ووجوده في هذه الوضعية يجعل كسر دائرة العداء منتظَراً منه لا من التطرف الإسلامي، ولعل تركيا الأوروبية هي السبيل للتخلص من التطرف الذي يغذّي تطرفاً في الجانب الآخر.
من المتوقع جداً أن تشهد المسألة الكردية في تركيا حلحلةً كلما تقدّمت أنقرة خطوة من نيل عضوية الاتحاد، حيث من المرجّح في النهاية أن تجد هذه المعضلة حلاً ديموقراطياً يتناسب مع عضوية الاتحاد الأوروبي. ذلك لا يتوقّف فقط عمّا ستفعله أنقرة للوفاء بالمعايير الأوروبية، بل لأن انضمام تركيا سيترك آثاره على رؤية أكراد تركيا للحل. ننوّه هنا بأن وجود تركيا في الاتحاد قد يشكّل ضغطاً أكبر على حزب العمال الكردستاني، إلا أنه في المقابل يعطي الأكراد “ومن ضمنهم الحزب” حوافز قوية للتصالح مع تركيا الأوروبية بدل القتال من أجل مغادرتها.
على هذا الصعيد يكسب السوريون، والأكراد السوريون، من حل المسألة الكردية في تركيا. وأول مكسب هو الفصل بين الاستحقاقين، حيث تولى حزب العمال وفرعه السوري توحيد الجبهتين في السنوات الأخيرة. عند الوصول إلى الحل في تركيا، لن يلتفت حزب العمال إلى أكراد سوريا، ولن يكون سيئاً أن يعتمد أكراد سوريا على أنفسهم، بل قد يكون هذا ما يحتاجونه بالضبط بعد عقود من تقديم تضحيات في سبيل معركة الحزب الذي لا يخفي أنها أولاً وأساساً في تركيا، ومن أجل أكرادها.
وحتى إذا كان بعض الأكراد السوريين يرى حزب العمال سنداً له، فإن الوضع الحالي ينبئ بضعف هذا السند، لأن الحكم التركي “مع وجود مسألة كردية غير محسومة لديه” شديد الحساسية إزاء أكراد الجوار، وهذا شديد الوضوح في موقف أنقرة من قسد، وكان شديد الوضوح في موقفها من الاستفتاء على إقليم كردستان العراق. على الضد من الوضع الحالي، سيكون من مصلحة تركيا الأوروبية الوصول إلى حلول ديموقراطية للمسألة الكردية في الجوار أيضاً، وبما يغلق الملف نهائياً. ولعل النموذج التركي للحل يكون صالحاً ليُحتذى به أو ليُنسج على منواله، وهو ما سيكون أيضاً برسم السوريين من غير الأكراد الذين سيتحررون بدورهم من عبء فتح الجبهات الذي يمارسه حزب العمال والحكم التركي، كلٌّ منهما على طريقته ولأسبابه.
بينما يأتي انضمام السويد إلى حلف الناتو في خضم سياق تصعيدي، لا يُعرف بعدُ مداه وآثاره على العالم ككل، قد يمنح انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي رسالة مغايرة. هي رسالة مصالحة، ومن دون أن نُفرط في التوقعات؛ تبدو اليوم الحاجةُ إلى هذه الرسالة أمسّ مما كانت عليه قبل نحو عقدين عندما شاع الظن أن باب الاتحاد الأوروبي صار موارباً أمام أنقرة.
“المدن”