رأت صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية أن الإمارات العربية المتحدة التي حولت ثروتها إلى نفوذ عالمي هائل، تحركت أبكر من جيرانها لاتباع سياسة خارجية أكثر استقلالية عن واشنطن والتعامل بشكل أكثر حزماً معها، وخصوصاً في ما يتعلق بعزل روسيا وتقييد
العلاقات مع الصين.
ويعتبر رئيس الإمارات العربية المتحدة الشيخ محمد بن زايد حليفاً رئيسياً للولايات المتحدة يعتمد عليها للدفاع عن بلده.
مع ذلك، سافر محمد بن زايد مرتين إلى روسيا خلال العام الماضي للقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وفي حزيران (يونيو)، كانت الإمارات ضيف شرف في المنتدى الاقتصادي الدولي في سان بطرسبرغ.
إلى ذلك، تخطط القوات الجوية الإماراتية والصينية لإجراء تدريبات مشتركة للمرة الأولى في وقت لاحق من آب (أغسطس) الجاري، وهو تحول ملحوظ لدولة خليجية غنية بالنفط تعتمد منذ فترة طويلة على المقاتلات والأسلحة والحماية من الولايات المتحدة.
وتُظهر هذه العلاقات العميقة أن حكومة الولايات المتحدة تنظر إلى زعيم الشرق الأوسط على أنه شريك مهم يمضي في مساره الخاص. وحقق مسؤولون أميركيون نجاحاً محدوداً في إقناع بن زايد بالتوافق مع السياسة الخارجية للولايات المتحدة، لا سيما عندما يتعلق الأمر بالحد من العلاقات العسكرية مع الصين وعزل روسيا بعد غزوها لأوكرانيا.
بدلاً من ذلك، ازدهرت الإمارات بفضل تدفقات الأموال الروسية والنفط والذهب، ما أطلق طفرة في قطاع العقارات في دبي. والواقع أن العلاقات المتنامية مع منافسي الولايات المتحدة والاقتصادات الآخذة في التوسع مثل الهند، تمهد الطريق أمام عالم قد لا تهيمن عليه الولايات المتحدة.
وقال المستشار الدبلوماسي للشيخ محمد أنور قرقاش لصحيفة “النيويورك تايمز” الأميركية مؤخراً: “ليس ما نراه في النظام الدولي عالماً متعدد الأقطاب، لكننا نشهد عالماً أكثر مرونة من حيث تغير الظروف”.
وعلى مدى العقد الماضي، تزايد قلق القادة الإماراتيين بشأن التزام واشنطن الطويل الأمد تجاه الشرق الأوسط، الذي لا يزال يستضيف عشرات الآلاف من الأفراد العسكريين الأميركيين. وخشي البعض تراجع الاهتمام الأميركي بالمنطقة، خصوصاً أن واشنطن لم تفعل ما يكفي لردع تهديدات إيران. لكن في الوقت نفسه، يواصل القادة سعيهم إلى الحصول على حماية أكبر من الولايات المتحدة.
ورداً على سؤال عن الهواجس الإماراتية، تحدثت دانا سترول، نائبة مساعد وزير الدفاع الأميركي لشؤون الشرق الأوسط، عن مرحلة صعبة، مشيرة إلى أن الولايات المتحدة لا تزال موجودة في المنطقة، لكنها تطلب من شركائها فعل المزيد، وهنا يكمن التغيير.
ويساوي حجم البلد، الذي يتألف من سبع إمارات تقع على الخليج العربي، مساحة ولاية كارولينا الجنوبية تقريباً. ورغم صغر حجمه، فهو أحد أكبر مصدري النفط في العالم. وتملك صناديق الثروة السيادية أصولاً تقدر بنحو 1.5 تريليون دولار، أي أكثر من القيمة السوقية لشركة “أمازون”.
نهج جديد في السياسة الخارجية
وأتقنت الإمارات كيفية تنويع اقتصادها بعيداً عن الاعتماد على النفط، فضلاً عن توسيع نفوذها في الخارج، بما في ذلك من خلال الرياضة.
وتحركت الإمارات في وقت أبكر من جيرانها لاتباع سياسة خارجية أكثر استقلالية والتعامل بشكل أكثر حزماً مع الولايات المتحدة، وهي استراتيجية تبناها لاحقاً ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.
وإلى حين توحيد البلاد في سبعينيات القرن العشرين، كانت المناطق المتفرقة التي شكلت الإمارات عبارة عن محميات بريطانية يبلغ عدد سكانها مجتمعة مئات الآلاف، وكانت محصورة بين إيران والمملكة العربية السعودية، وتوقع بعض المراقبين ضمها إلى إحداهما.
لكن بدلاً من ذلك، تحولت الإمارات مركز قوة إقليمي. واليوم، أصبحت دبي موطناً لأحد أكثر المطارات ازدحاماً حول العالم، وتضم أطول ناطحة سحاب وشركة موانئ تدير منشآت خارج الشرق الأوسط.
وخلال السنوات القليلة الماضية، انتهز القادة الإماراتيون الفرص التي أتاحتها أزمات عدة، بما في ذلك جائحة كورونا والحرب في أوكرانيا، لترسيخ مكانة بلدهم كرائد أعمال ناجح، حيث يجتمع الأثرياء البريطانيون مع الأوليغارشية الروسية وأباطرة المال الهنود.
وقال وزير شؤون مجلس الوزراء الإماراتي محمد القرقاوي خلال ظهور نادر في بودكاست سعودي العام الماضي: “الجميع يعرفنا اليوم… يعرفون أهميتنا ويدركون تأثيرنا على العالم”.
وبدأت السياسة الخارجية الأكثر جرأة للبلاد تظهر قبل عقد، عندما أطاحت ثورات الربيع العربي رجالاً إقليميين أقوياء في وقت حول الرئيس الأميركي باراك أوباما تركيزه نحو آسيا. وعندما أعادت الانتفاضات ترتيب هيكل القوة في الشرق الأوسط، أرسلت جنوداً وأسلحة إلى حروب إقليمية متعددة.
وقال مسؤولون أميركيون في ذلك الوقت إن الإمارات شنت غارات جوية في ليبيا عام 2014 من دون إبلاغ واشنطن. وعام 2015، بعدما سيطرت ميليشيا مدعومة من إيران على العاصمة اليمنية، انضمت القوات الإماراتية إلى تحالف عسكري تقوده السعودية للتدخل. ولا تزال الحرب في اليمن مستمرة.
وعام 2019، أعلنت الإمارات انسحاب قواتها من اليمن. وكان ذلك بمثابة بداية فترة غيرت فيها الحكومة خطابها إلى دبلوماسية أكثر ليونة وذات دوافع اقتصادية، داعية إلى السلام في منطقة أنهكتها النزاعات.
وعملت الدولة على التخفيف من حدة التوترات، لا سيما مع إيران، وهو نهج تبنته المملكة العربية السعودية أيضاً عندما أعادت العلاقات الدبلوماسية مع طهران في صفقة توسطت فيها الصين هذا العام.
ولم يزر محمد بن زايد الولايات المتحدة منذ عام 2017. وتعثرت صفقة شراء مقاتلات أميركية من طراز “أف-35” عام 2021. وأبرمت الإمارات عدداً من الاتفاقيات للحصول على أسلحة من دول أخرى، بما في ذلك طائرات هجومية خفيفة من الصين.
لكن في كانون الثاني (يناير) 2022، تعرضت أبوظبي لهجمات بطائرات مسيرة وصواريخ تبنتها جماعة الحوثي المدعومة من إيران في اليمن. وأحبط هجوم بمساعدة الولايات المتحدة، إذ نشر الأميركيون دفاعات صواريخ “باتريوت” من قاعدة جوية. لكن هجوماً آخر أسفر عن مقتل ثلاثة أشخاص، فجادل مسؤولون إماراتيون بأن الرد الأميركي لم يكن كافياً.
وفي مؤتمر عُقد في البحرين في تشرين الثاني (نوفمبر)، قال بريت ماكغورك، المسؤول البارز في البيت الأبيض عن ملفات الشرق الأوسط، إنه علم بالمخاوف المستمرة بشأن الالتزام الأميركي تجاه المنطقة.
الحرب في أوكرانيا
وأجج الغزو الروسي لأوكرانيا العام الماضي التوتر.
وأوضحت الإمارات، إلى جانب دول أخرى، أنها ليست مجبرة على الانحياز لأي طرف. ويقول مسؤولون إماراتيون إن عليهم إبقاء الحوار مفتوحاً مع روسيا لمتابعة جهود السلام والوساطة.
وعندما امتنعت الإمارات عن التصويت في مجلس الأمن لإدانة روسيا بعد وقت قصير من غزوها لأوكرانيا، قال محمد باهارون، رئيس مركز أبحاث في دبي: “ثمة جانب جيد وآخر سيئ… فلا بد من الاختيار”.
وقالت دينا اسفندياري، كبيرة مستشاري مجموعة الأزمات الدولية للشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إن القادة الإماراتيين لا يزالون حريصين على أن يكون للولايات المتحدة حصة أكبر في المنطقة.
وتنسجم بعض التحولات في السياسة الخارجية الإماراتية بشدة مع مصالح البيت الأبيض، إذ كانت الإمارات من أوائل المؤيدين الخليجيين لتطبيع العلاقات مع إسرائيل عام 2020، وذلك في صفقة بوساطة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.
ويقول محللون ورجال أعمال محليون إن التراجع التدريجي للقوة الناعمة الأميركية واضح في مختلف أنحاء الشرق الأوسط.
وفي استطلاع رأي حديث أجرته شركة علاقات عامة مقرها دبي، سئل شباب عرب عن الدولة التي لها التأثير الأكبر في منطقتهم، فاختار حوالي ثلث المشاركين الولايات المتحدة. لكن الدولة الثانية الأكثر شيوعاً لم تكن الصين ولا روسيا، بل الإمارات.
“النهار العربي”