لم تعرف الثورة السورية منذ انطلاقها في آذار 2011م، لحظة بهذا الوضوح، لكن هذه اللحظة لم تكن لولا التضحيات الكبيرة التي قُدمت طوال سنواتها السابقة، ولولا البطولات المعجزة والعظيمة لشباب سوريا وشاباتها ممن أشعلوا شرارتها الأولى ودفعوا ثمناً باهظاً من حياتهم، وسنوات أعمارهم كي تتأجج ويصعب إطفاؤها.
اثنا عشر عاما والثورة السورية تتحدى المستحيل، عنف وصل حد استخدام الأسلحة المحرمة دولياً ضد مدنيين عزّل، اعتقال لمئات آلاف السوريين، تهجير، وتشريد، وتجويع وحصار لملايين منهم، وفعل كل ما يمكن للوحشية أن تخترعه، يضاف إلى كل ما سبق استقواء بجيوش خارجية، تواطؤ دولي.. ومع كل هذا فالثورة لم تنطفئ.. كانت تخبو، وتتعثر، وتتوه بوصلتها أحياناً، لكنها لم تنطفئ، ولم تفقد وجهتها الأهم، وهي أنها تريد رحيل السلطة المستبدة الفاسدة المتوحشة.
لم يكن لثورة عبر التاريخ، تعرضت لكل ما تعرضت له الثورة السورية أن تكون كما يرسم العاشقون ثوراتهم، ولم يكن لشعب عبر التاريخ تعرض لعقود طويلة من القمع، والتجهيل والتفتيت أن ينتج ثورة نقية وصافية كما تُتخيل الثورات، فالمجتمع الهش، والمقسّم، والمفتت، والمفخخ بالقهر والفقر والفساد والطائفية والعشائرية، وكل ما يجهض الثورات لا بدّ أن يتلعثم بأبجدية ثورته، وأن يتردد، ويتيه في فيض الأكاذيب، والضخ الإعلامي الهائل الذي تعرض له، ورغم كل هذا فقد ظلت الثورة وفية لهدفها الأهم، ولعل العامل الأهم في استمرار الثورة ومحافظتها على هدفها في معظم مراحلها، هو بكل تأكيد عائد لطبيعة خصمها، فهو خصم لا يمكن الصراع معه إلا على قاعدة الوجود وعدمه، خصم لا يمكن إصلاحه، ولا صلاحه، ولا التعايش معه، ولا التفاوض معه، ولا القبول بأي شكل له.
وضوح صوت السويداء اليوم لم يكن لولا أن سقطت كل أكاذيب الطغمة الحاكمة، وانفضحت حقيقتها وطبيعتها، ولولا أن أيقن “الشبيحة” والطائفيون، والمرتزقة وأبواقهم الإعلامية، أن لا جدوى من محاولتهم العبثية لإجهاض هذه الثورة وتشويهها
اليوم تقدم السويداء الوجه الأكثر وضوحا للثورة السورية، والأكثر أصالة وتعبيراً عن حقيقتها وجوهرها، فما تردده حناجر المتظاهرين اليوم، هو ذاته الذي رددته حناجر الأبطال الذين فجروها في درعا، وحمص، واللاذقية، ودمشق، ودير الزور، والقامشلي وحماة، وفي كل مناطق سوريا، لكن وضوح صوت السويداء اليوم لم يكن لولا أن سقطت كل أكاذيب الطغمة الحاكمة، وانفضحت حقيقتها وطبيعتها، ولولا أن أيقن “الشبيحة” والطائفيون، والمرتزقة وأبواقهم الإعلامية، أن لا جدوى من محاولتهم العبثية لإجهاض هذه الثورة وتشويهها، وأن ما من أحد في هذا العالم، إلا بات يعرف جيداً كم هم كاذبون.
ثورة بكل هذا الوضوح، وبكل هذا الخطاب الوطني الجامع والصريح، ثورة بكل هذا الإجماع، وبكل هذا التنوع لأفرادها ومناصريها، من الطفل وحتى كبار المسنين، ذكوراً وإناثاً، ثورة بكل هذه الفصاحة السورية البليغة، لا تترك أي حجة أو عذر لسوري يريد سوريا وطناً حراً، سيداً مستقلاً، أن لا يقف معها، ولا تترك ذريعة واحدة لمن كان يتحجج كذباً، أو تثاقفاً بطائفية الثورة، أو تبعيتها أو تآمرها، أو ..أو.
لكن يبقى السؤال الأهم هو: كيف نحصن هذه اللحظة الوطنية، وكيف نحمي وجهها الوطني الأصيل، وكيف نقويّها؟
في مقدمة المخاطر التي تتهدد هذه اللحظة الباهرة في التاريخ السوري المعاصر، يأتي سعي طغمة الطغيان التي تحكم سوريا لإجهاضها من داخلها، وذلك عبر المرتبطين بهذه الطغمة، والمتنفّعين منها، وهو تهديد يقل تأثيره كلّما طال زمنها، وكلّما ظلت راياتها وخطابها سورياً واضحاً.
يأتي ثانياً، محاولات إلحاقها بأي جهة خارجية، وهو ما تم التأكيد على رفضه منذ البداية من قبل قادة الحراك في السويداء، الذين أبدوا وعياً ناضجاً ومسؤولاً لخطورة هذا الأمر، وأعلنوا بوضوح، رفضهم القاطع له.
أما ثالث المخاطر، فيكمن في عزل هذا الحراك ومنع امتداده في محيطه السوري، والتصدي لهذا الخطر يتحمل مسؤوليته السوريون كلهم على امتداد الوجود السوري داخلاً وخارجاً، فليس لسوري عذر، وليس لسوري حجة أو ذريعة، فالحلم بسوريا التي نريدها لنا ولأجيالنا، والذي دفعنا كما لم يدفع أحد في التاريخ ثمنا له، ترتفع رايته بوضوح.
ثمة مخاطر عدة أخرى، لكن أخطرها هو الاكتفاء بمراقبة ما يحدث اليوم في السويداء ودرعا، وعدم إيجاد آليات لدعم هذا الحراك وتعزيزه، وهذا ما يجب أن يشتغل السوريون عليه عاجلاً، في حلب، وحماة، واللاذقية، وطرطوس ودمشق أولاً، ثم في باقي مناطق سوريا، وفي كل مناطق وجود السوريين في الخارج.
ليس الحراك مقتصراً على المظاهرات، يمكن أن يتخذ أشكالاً متعددة سريعة وأكثر أماناً، كنشر البيانات، ورفع علم الثورة، وكتابة الشعارات على الجدران، وما إلى ذلك
يمكن للسوريين في الساحل السوري، وهي المنطقة التي ترعب النظام اليوم، والتي بانضمامها لحراك السويداء سوف تشكل الخطوة الأهم، وهذا ما يدركه النظام جيداً، ويدرك مدى خطورته، ولهذا يزجّ بكل قوته لمنعها من التحرك، أقول يمكن لهذه المنطقة أن تبدأ حراكها بطرق متعددة، فالنظام الذي دفع بأعداد كبيرة من عناصر الأمن، وعناصر من الفرقة الرابعة لضبط المدن الرئيسية في الساحل، ومراقبتها بصرامة شديدة، ووضع خططه لقمع سريع، يمكنها بدء الحراك من الأرياف، والمناطق التي تضعف فيها قوة القمع، وهذا ما سوف يربك النظام، ويشتت قواه الأمنية، ويعجّل من انضمام المدن الرئيسة للحراك، بعبارة أخرى لتكن الحركة من الأطراف باتجاه المركز.
ليس الحراك مقتصراً على المظاهرات، يمكن أن يتخذ أشكالاً متعددة سريعة وأكثر أماناً، كنشر البيانات، ورفع علم الثورة، وكتابة الشعارات على الجدران، وما إلى ذلك.
إنها ثورتنا من أجل حقنا في حياة حرة وكريمة، ومن أجل مستقبل أجيالنا، ومن أجل وطن لا تتسيده القوى الخارجية، وتلعب به كيفما شاءت.
“تلفزيون سوريا”