طوال الكارثة السورية، لم تكن القضايا الإنسانية ولا البعد التاريخي “هاماً” في رسم سياسة إسرائيل. فليست هذه شيم الاستراتيجيين “الكبار”. لكني أزعم أنه يكفي أن ننظر لخرائط انتشار الصواريخ والمسيرات الإيرانية في سوريا ولبنان والعراق والمتوسط، كي ندرك خيبتهم وما أودت إليه المقاربة الأمنية البحتة بالوضع الاستراتيجي.
الأهم أنه مع تشكل مآلات الأزمة السورية في المدى المنظور، سيفضي استمرار الشرنقة العقلية الأمنية إلى خسارة إسرائيلية موصوفة. ليس لأن سوريا ستهدد يوماً أمن إسرائيل، أبداً! بل لأن خرائط المخاطر الأمنية الإسرائيلية ذاتها، تشير لذلك. بالمنطق الأمني، أنت على ما يرام، ما دامت تطمئنك الأجهزة الأمنية أن كل شيء مستتب!
تحججت إسرائيل بشتى الحجج لتساهم في بقاء الأسد ورقة خريف معلقة بخيوط إيرانية روسية، أملاً في أن منطق “حايد عن ظهري ممكن في الشرق الأوسط”! لكن بغض النظر عن شكل الحلول الذي ستؤول إليه الأزمة السورية، ستواجه إسرائيل من جديد فشلاً استراتيجياً بائناً، عند الساعة الثانية عشرة إلا خمس دقائق من حكم الأسد، وبعدها بالطبع.
نادراً ما تكون سوريا جزءاً من النقاش السياسي في إسرائيل، وكل ما يبيعه الإعلاميون العسكريون للجمهور هو أنهم يقصفون الإيرانيين. لكنهم يعلمون أن قصفهم لم يغير استراتيجياً من خطط قاسم سليماني الأصلية، بل يندرج قصفهم ضمن التكلفة المحسوبة، مقابل تعزيز وجود إيران في سوريا ولبنان.
بالنتيجة تعلم إسرائيل عدد الصواريخ الدقيقة على حدودها القريبة والبعيدة. وتعلم أن شبكات “حزب الله” لتهريب المخدرات، تزود أنصار إيران بالسلاح حتى في الضفة الغربية. وهكذا، ومثل تجار المفرق، يعمي قصر النظر التكتيكي الأجهزة الإسرائيلية عن المخاطر البعيدة.
كان رد إسرائيل الأولي على الحرب الأهلية السورية الحرص على “الشيطان الذي نعرف”. لكن القادة الإسرائيليين بدأوا يراجعون تكتيكهم وهم يراقبون من المرتفعات الغربية للجولان، انهيار مواقع الأسد في الغوطة الشرقية. رغم ذلك، وبحسب كتاب إسرائيليين مرموقين، رفضوا ضربات جوية حاسمة ضد الكسوة وقطنا وكناكر.
وعندما تجاوزت وحشية الأسد “الخط الأحمر” الذي وضعه الرئيس أوباما في آب (أغسطس) 2013، حث مسؤولون أميركيون وبعض دول الخليج إسرائيل سراً، على شن ضربات عقابية ضد سوريا. فلقد أراد أوباما “البقاء خارج “المستنقع السوري”. لكن القادة الإسرائيليين فضلوا التوافق مع الأسد عبر بوتين، الذي قدم ضمانات باستعداده لتدمير ترسانته الكيماوية. وكالعادة، تم الاحتفاظ بـ”الشيطان الذي نعرف”، وكما كان متوقعاً، ابتلع الإسرائيليون الطعم، واحتفظ الأسد بقسم من ترسانته الكيميائية.
بعدما وصل جيش بشار الأسد لمرحلة حاسمة من التفكك، وبعد مقتل عدد من كبار مساعديه، بدا أنه يحزم حقائبه، وأتيحت لإسرائيل من جديد الفرص لتغيير مسار الأحداث براً أو جواً، لكنها فضلت أن تنتظر! إلى أن قام قاسم سليماني باستقدام روسيا في لقاء مع بوتين في الكرملين.
ورغم أن إسرائيل ترقبت بسعادة تفويض الولايات المتحدة لبوتين في سوريا، لكنها لم تكن قادرة على فهم مغزى حرص الولايات المتحدة على منع انتصار حاسم للأسد ورعاته الروس والإيرانيين. بل عملت الولايات المتحدة على “تجميد” الأوضاع شرق الفرات، والتنف، ناهيك عن تمرير سيطرة تركيا على ثلاث مناطق في الشمال وردع تركيا الحاسم للهجمات السورية على إدلب.
في صيف 2018، تبلورت اتفاقات سوتشي بين تركيا وروسيا وإيران لتثبيت الأوضاع. وتبلورت إلى جانبها، توافقات نتنياهو مع بوتين لضبط السلوك الإيراني. وبذلك ابتلع القادة الإسرائيليون من جديد طعم بوتين. وعظموا من ميزات تدخله بالنسبة لإيران، لتصبح روسيا وسيط القوة الأساسي ولتقرر هي في نهاية الأمر، مستوى المخاطر التي تواجه أمن الدولة العبرية.
رغم اعتقاد العديد من السوريين أن إسرائيل تفضل سوريا منهارة، لكن ليس ثمة منطق في بقاء “قائم مقام” فاشل غير قادر على ضبط أرضه وشعبه. إلى أن صارت الأعلام الصفر لـ”حزب الله” تشاهد دون مناظير في الجولان، وعلى الحدود الأردنية. ومرة أخرى، ابتلع الغفل التكتيكي الإسرائيلي طعم بوتين والأسد.
سمح التدخل الروسي، ليس باستتباب خطة سليماني وحسب، بل انتشرت الميليشيات الإيرانية على حدود إسرائيل الشمالية الشرقية، وامتدت للفرات الأوسط، ودير الزور، والبوكمال، والبادية، وضواحي دمشق، وحلب. وأوقفت إسرائيل عملية “حسن الجوار” لمساعدة المناطق السورية المجاورة. واستولى “حزب الله” فعلياً على المنحدرات الشرقية للقلمون وجبل الشيخ، ونمت ترسانته لتبلغ آلاف الصواريخ الدقيقة، لتسيطر إيران على 469 موقعاً. كما تشغل البحرية الإيرانية سفن شحن خارج الموانئ السورية، كمنصات عائمة للطائرات بدون طيار وقاذفات الصواريخ. ناهيك عن سيطرة الميليشيات على الجانب العراقي من الحدود وتوسعها في سنجار.
أفدح الطعوم التي ابتلعتها إسرائيل، مراهنتها على استمرار التنسيق مع بوتين إثر الحرب الأوكرانية. ولعلها تشعر الآن باليتم! فبعد فشله في تحقيق أهدافه المعلنة في أوكرانيا، لم يعد بوتين – صديق نتنياهو، قادراً على تدبير الصراعات بين تركيا وإيران وإسرائيل والنظام السوري والدول العربية. بل ينقلب مؤشر القوة نحو المملكة وتركيا. وبتقديرنا أنه مع هذا التحول لن تستطيع إسرائيل البقاء طويلاً خارج الإقليم، ولا الاستمرار في حماية أمنها بوهم وغرور القوة لا بالتواطؤ مع “الشيطان الذي نعرف” ولا مع بوتين.
يدخل الإقليم انعطافاً جوهرياً نوعياً لا تستوعبه العقول الأمنية. ولو استبعدنا حرباً إقليمية شاملة، فكيف تقرأ إسرائيل التوافقات المعقدة؟ الكوريدور الاستراتيجي الذي ترعاه أميركا والمملكة العربية السعودية والإمارات لضمان موارد الهند. والتوافقات الأميركية – الإيرانية الجديدة حول الملف النووي. والتوافقات بين المملكة العربية السعودية وإيران لتخفيض التصعيد، لتصبح المملكة وليس بوتين وسيط قوة إقليمياً حتمياً. ورغم تعنت إيران وانفصام القول والفعل، ترسخ المملكة دورها الإقليمي. ثم ماذا عن صعود الدور التركي كوسيط قوة ليس في الأطلسي ومع روسيا وحسب، بل شرق المتوسط وسوريا. فعلام تراهن إسرائيل؟
انتهت عملياً الحرب السورية – الإسرائيلية في اتفاقات فصل القوات 1974. وإذ تصبح حرب التحرير الشعبية نكتة تاريخية، تبدو مقاربة القيادات الإسرائيلية لحالة الفوضى في سوريا والمخاطر اللامتناظرة التي يطورها خصومها مثل لاعب بذنب الكوبرا. إنه لوهم أن تثق إسرائيل بحل أمني لحدودها الشمالية، فليس ثمة حل مستدام يمكن أن يحيا على أشلاء السوريين. وإذ تتضافر التحولات في الإقليم، هل تدرك إسرائيل أنك ما لم تكن جالساً على المائدة، فأنت على قائمة الطعام، وإن حايد عن ظهري مش بسيطة؟؟
“النهار العربي “