تعتمد البنية السردية لفيلم “آرارات” (2002)، للمخرج آتوم إيغويان، على المشهد الذي يصل فيه الشاب الأرميني رافي إلى كندا متحمساً لعرض فيلمه عن الإبادة الأرمينية، لكن استقباله يكون مختلفاً عما توقعه. ينهمك ضابط الجمارك الكندي، ديفيد، في تفتيش علب شرائط الفيلم المعدنية للتأكد من أنها لا تحوي مخدرات أخفاها رافي بِنِيّة تهريبها إلى كندا. وتدور محادثة مطولة بين الإثنين أثناء عملية التفتيش، يحاول خلالها رافي بإلحاح إقناع الضابط الكندي أن المذبحة الأرمينية قد وقعت فعلاً، لكن بلا طائل. ويبدو رافي تمثيلاً للصورة المألوفة للأرميني حامل للمذبحة معه على الدوام والمتوجه بها إلى العالم، وفي هذه الحالة لا يقابله سوى إنكار يدفعه انشغال بأولويات أخرى…
في الأيام القليلة الماضية، بدأت عملية نزوح جماعي لأرمن منطقة ناغورنو كارباخ المتنازَع عليها طويلاً. الحرب الأخيرة، حرب اليوم الواحد التي شنتها أذربيجان ضد انفصاليي الإقليم بعد حصار طويل، وانتهت باستسلامهم، لا تُقارن بدموية الحرب الأولى التي دارت رحاها في المنطقة منذ العام 1988 واستمرت ست سنوات، مُخلّفةًً آلاف القتلى من الجانبين، وتشرّد على إثرها حوالى المليون شخص، ثُلثاهم من الآذريين. ولا تُقارن أيضاً بحرب ناغورنو كارباخ الثانية في العام 2020، والتي استعادت فيها أوزباكستان بعد شهر ونصف من القتال، بعضاً من أراضي المنطقة (المعترف بها دولياً كأرض آذرية)، بالإضافة إلى تمكنها من فرض سيطرتها أخيراً على الحدود الآذرية الإيرانية كاملة.
لكن، ورغم من أن الحرب الأخيرة ليست جديرة بصفة الحرب، مع محدودية المعارك وضحاياها، فإن مشاهد الفرار الجماعي للأرمن من موطنهم التاريخي تثير غصة تاريخية. صحيح أن تعداد سكان المنطقة يربو على 120 ألف نسمة، وهو رقم متواضع مقارنة بملايين اللاجئين الفارين من مناطق القتال في مناطق أخرى من العالم… وصحيح أن الحكومة الأرمينية أعلنت استعدادها لاستقبالهم جميعاً، فيما تقوم قوات حفظ السلام الروسية بالإشراف على عملية إخلائهم… إلا أن ثقل ذاكرة المذبحة الأرمينية يجعل المشهد مؤرقاً، كإعادة للقطات من كابوس تاريخي. والأفدح، أن هذا الكابوس الواقعي يعيد تنبيهنا إلى أن حسم الصراعات عبر عمليات تفريغ مناطق بكاملها من سكانها، على أسس اثنية، بما يشبه التطهير العرقي البارد، ما زال وارداً ومن دون إثارة الكثير من القلق أو الاهتمام الدولي، وكأن القرن الماضي يعيد نفسه في تبجح.
لا يعني هذا أن الأرميني ضحية أبدية. ففي الصراع على ناغورنو كارباخ، كان الأرمن معتدين وضحايا في آن واحد، بحسب ميل كفة المعارك. غير أن المثير للأسى هو تبين الملابسات التي قادت إلى حسم الصراع الطويل بهذه الطريقة، وكيف تخلى الجميع فجأة عن سكان المنطقة. كانت الحرب الأولى مدخلاً لموسكو كي تفرض هيمنتها على منطقة القوقاز بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وذلك عبر التلاعب بالطرفين وإخضاعهما. أما حرب العام 2020، فشهدت تعقيداً لخريطة التحالفات وتوازنات القوة. فبالإضافة إلى دعم تركيا لباكو، فإن إسرائيل زودتها بالسلاح والتقنية المتطورة والتدريب، ومن الجهة الأخرى قدمت طهران الدعم لأرمينيا. والجدير بالذكر أن تمدد التنافس الإسرائيلي الإيراني، ليصل إلى القوقاز، لم يكن الصلة الوحيدة لتلك الحرب بالشرق الأوسط. ففيض الكارثة السورية وجد مساربه ليصب في صراع القوقاز ويتداخل معه، إذ حاربت بضعة آلاف من المقاتلين السوريين في الجانب الآذري بتدبير تركي، ويقدر أن أكثر من 500 منهم قتلوا في المعارك.
منذ العام 2020، سعت موسكو إلى ترسيخ نفوذها في القوقاز، عبر استراتيجية السلام هذا المرة، إذ نشرت قوات حفظ السلام الروسية في المنطقة كضمانة للهدوء. وشرع الجانبان الأرميني والآذري في التفاوض على معاهدة للسلام، وبشكل قاطع رفضت باكو تضمين منطقة ناغورنو كارباخ في المحادثات، باعتبار المسألة شأناً داخلياً. ومن الجهة الأرمينية، أبدت حكومة يريفان مرونة، وإن لم تصل إلى حد الاعتراف الضمني بالسيادة الآذرية على المنطقة المتنازع عليها. ولم يكن هذا التحول الوحيد في موقف أرمينيا. ففي محاولة للتقرب من الغرب، بغية عدم الاعتماد بشكل كامل على موسكو، شاركت القوات الأرمينية مؤخراً في مناورات عسكرية مع الولايات المتحدة.
قامت باكو بإعلام الروس مسبقاً بنيّتها شن الهجوم الأخير، ولم تشارك موسكو تلك المعلومات مع الحكومة الأرمينية. ووقفت قوات حفظ السلام الروسية على الحياد، من دون تدخل في المعركة القصيرة والحاسمة. وفي لعبة تبادل اللوم، اتهمت الحكومة الأرمينية الروس بالتخاذل ومحاولة جرها إلى حرب لا ترغب فيها. وكان الرد الروسي بأن يريفان تغازل حلف الناتو، فلماذا تطلب الحماية الروسية الآن؟! وبالقدر نفسه، لامت وزارة الخارجية الأرمينية، الاتحاد الأوروبي والعواصم الغربية، على صمت مسؤوليها تجاه ما يجري. ومن ناحية أوروبا، فإن عواصمها غير مستعدة لإفساد علاقاتها بالنظام الاستبدادي في باكو، بعد تحولها منذ الحرب الأوكرانية إلى الغاز الآذري لتعويض الغاز الروسي.
وسط تلك الشبكة الكثيفة والمتناقضة من المصالح والصراعات والتوازنات الهشة، وبفعل موجات الاضطراب التي تندفع على إثر الحرب الأوكرانية حول العالم، من غرب إفريقيا إلى البلقان، بغية إعادة زعزعة النظام العالمي أو ترميمه، يجد أرمن ناغورنا كارباخ أنفسهم، وقد تخلى عنهم الجميع وتركوا ليلاقوا مصيراً مأسوياً في لعبة الجيوسياسة التافهة والدموية، بوصفهم خسائر هامشية. وهم في هذا، مثلهم مثل السوريين والفلسطينيين، وغيرهم.
“المدن”