شكل هجوم السابع من أكتوبر الذي شنته كتائب “القسام” على منطقة “غلاف غزة” انعطافاً آخر في وتيرة انحياز الخطاب الغربي سياسياً وإعلامياً مع إسرائيل.. فبات الاصطفاف أكثر انكشافاً، بدعوى أن الأخيرة تخوض “حرباً وجودية” من أجل البقاء.
لكنّ هذا الانحياز لم يشفِ غليل إسرائيل، حكومة ومعارضة، فهي تريد سقفاً أعلى من وسائل الإعلام الأجنبية، وذلك عبر حثها على أن تغمض عيونها عن مجازر جيشها ضد الفلسطينيين في قطاع غزة، وأن تشارك في عملية تضليل الرأي العام العالمي بشأن هوية مرتبكها؛ كي تكون “مجازر هادئة”.
مزايدة إسرائيلية
كان هذا جلياً في حفلة المزايدة الإسرائيلية الجنونية على الإعلام الغربي لتضييق أكبر لهوامش معالجاته الحدثية لمجريات الحرب المستمرة منذ أسبوعين، ليصل الأمر إلى توبيخ وجهه رئيس المعارضة، يائير لبيد، للصحافة الأجنبية خلال إحاطة صحافية لمراسليها في إسرائيل، صباح الخميس. وقد طرح لابيد نفسه مُصححاً “مهنياً وأخلاقياً” لتلك الصحافة، قائلاً: “عندما تعلمون أن هناك جهة تكذب وأخرى تبذل قصارى جهدها للتحقق من الحقائق، فإن الحد الأدنى الذي يمكن المطالبة به هو ألا تمنحوا منبراً لهذه الأكاذيب”.
وقد وبّخ لابيد الذي عمل إعلامياً في السابق قبل أن ينتقل إلى العمل السياسي، وسائل إعلام متعددة من بلدان العالم، أبرزها الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، ألمانيا، فرنسا، إيطاليا، البرازيل، والهند.
وجاء غضب لابيد على خلفية قيام وسائل إعلام دولية بنسب القصف الذي تعرض له مستشفى المعمداني في غزة إلى إسرائيل، ما أسفر عن مئات الشهداء والجرحى.
إعلام غربي ناطق بلسان اسرائيل
الحال أنّ رئيس المعارضة الإسرائيلية لم يتحدث عن رأي شخصي، بل عقلية إسرائيل بوصفها “ذراعاً استعمارياً غربياً” قائماً على ادعاء “الخير المطلق” وتجييش العالم للوقوف معها، لدرجة ضغطها الكبير على الإعلام الغربي لينضم إلى جوقة الدعاية الإسرائيلية من دون أدنى مسؤولية مهنية، حيث يُبدي لابيد انزعاجه من ترك أي مساحة لبث ما يتعرض له الفلسطيني الضحية، فيقول: “لم يمنح العالم إسرائيل سوى أسبوع واحد فقط من التضامن والمشاركة في الحزن، وعاد فوراً لمهاجمتنا بسبب دفاعنا عن أنفسنا”. لعلّ جملة لابيد تدلّ على أن إسرائيل ترغب بشيك مفتوح من دول الغرب، حكاماً وإعلاماً، وبلا سقف زمني، كي تمعن في جرائمها ضد القطاع.
لعلّ ما أزعج لابيد خاصة، والماكينة الدعائية الإسرائيلية عامة، هي “الصورة المتوازية” ونشر التفاصيل، إذ أن زعيم المعارضة في إسرائيل يرى أن “الموازاة والتوازن في نقل الحدث هو تشويه وجبن أخلاقي، وكسل مهني”. وهي تعبيرات أراد لابيد أن يستفز بها المراسلين المتواجدين في تل أبيب لجعلهم أكثر انغماساً مع البروباغندا الإسرائيلية، وظلماً للفلسطينيين.
وهو أمر أكده بكلامه الموجه لمراسلي الإعلام الأجنبي، بقوله إنه كشخص قادم من الصحافة: “لا أعتقد أنكم تريدون خدمة الشر، لكن هذه هي النتيجة”.. داعياً إلى تنسيق ما سينشره المراسلون مع الجهة الرسمية الإسرائيلية، إذ قال: “سنكون سعداء بالعمل معكم بأي طريقة تختارونها لضمان تغيير طريقة تغطية هذا الصراع”.
إذن، تسعى دولة الاحتلال إلى تجنيد الإعلام الدولي لصالحها دائماً وبنسبة “مئة بالمئة”، وليس فقط خلال فترة عدوانها الحالي على غزة.
من هو لابيد؟
يائير لابيد البالغ من العمر 60 عاماً، عمل سابقا كاتباً في صحف عبرية، ومقدماً لبرامج رئيسية في عدد من محطات التلفزة في إسرائيل، إضافة إلى عمله كممثل سينمائي، قبل أن يترك الصحافة قبل 13 عاماً ويتفرغ للعمل السياسي، حتى تقلد منصب رئيس الوزراء بالتناوب لفترة وجيزة. مع العلم أن والده أيضاً صحافي وسياسي يُدعى يوسف لابيد.
حملة إعلامية إسرائيلية
وجاء توبيخ لابيد في خضم “حملة إعلامية” يقودها المتحدث بلسان الجيش الإسرائيلي، دانيال هغاري، وقد وصفها الأخير بـ”حملة إعلامية من أجل الشرعية” بموازاة المعركة العسكرية. وقالت هيئة البث الإسرائيلية إنها المرة الأولى التي يتخذ فيها الجانب الإعلامي أهمية أكبر من ذي قبل مقارنة بمعارك إسرائيل السابقة. وأضافت أن الهدف منها هو “عدم التأثير على معنويات الجنود في الميدان وتمكينهم من مواصلة الحرب”.
وكشف المراسل العسكري إيال عاليما، في إفادته التلفزيونية، بأنّ العشرات من الخبراء بصنع الرسالة قد انضموا في الأيام الأخيرة إلى وحدة المتحدث العسكري؛ بغية المشاركة في الحملة الإعلامية المحتدمة وإنجاحها.
وضرب الإعلام العبري مجزرة مستشفى المعمداني مثالاً على كيفية عمل هذه الحملة تحت قيادة هغاري، إذ استنفرت لرصد كل ما نشر في الإعلام العربي والدولي في وقت قياسي، ثم عملت على صياغة “رد مضاد ومُحكم وسريع”.
وفي سياق الحملة، يخرج المتحدث العسكري الإسرائيلي بإيجازات ومؤتمرات صحافية يومية وأكثر من مرة خلال ساعات، كلما اقتضت الضرورة، فيستعرض مواد متمثلة بصور وفيديوهات وتسجيلات تخدم كل موضوع دعائي مرتبط بمجريات الحرب. وتستهدف الحملة الإعلامية الإسرائيلية ثلاثة أطراف: الإسرائيليين، الفلسطينيين، والعالم الغربي.. فتراعي اللعب على وعي كل جمهور حسب مرجعيته الثقافية وصلته بالصراع الدائر. وبررت وسائل إعلام عبرية الخروج المكثف للمتحدث العسكري الإسرائيلي للإعلام، هو أن حجم المعلومات والنشر ضد إسرائيل هائل في السوشال ميديا ووسائل الإعلام المتعددة، ما يستدعي “تصدياً إسرائيلياً مكثفاً لها”.
وأيضاً.. خدعة؟
بيدَ أنّ هدف الحملة الدعائية الإسرائيلية غير المسبوقة نوعاً وكماً، لا ينحصر في التصدي للحقائق والمعلومات القادمة من ناشطين فلسطينيين وعرب ومناصرين لهم في هذا العالم، بدعوى “منع الإضرار بمعنويات الإسرائيليين وسير المعركة”.. بل وأيضاً “خدعة العدو”، أي التصريح بأمور تهدف إلى التمويه والتضليل بشأن المرحلة التالية للحرب الإسرائيلية، مثل الحرب البرية، لإشغال الفصائل في غزة بحكاية الاجتياح البري والتأهب له؛ في حين يخطط الجيش الإسرائيلي لتوجيه ضربة عسكرية مفاجئة و”قاضية” وغير متوقعة، وهو سيناريو مُحتمل من منظور خبراء بالدعاية.
وهنا يبرز التساؤل: لماذا يكرر هغاري جملته باقتراب الاجتياح البري أكثر من مرة لتتناقله وسائل الإعلام خبراً رئيسياً؟ هل هو تمويه لخطة عسكرية مغايرة ومفاجئة؟، ما هي الخطة الإسرائيلية الحقيقية؟
“المدن”